
في قلب كربلاء، المدينة التي خلدها التاريخ بمعركة الطف، ينبعث من بين لهب الأفران وصوت المطرقة على الحديد، إيقاع يروي قصة ماضٍ مجيد لا يزال نابضًا بالحياة. ليث الشريفي، الشاب ذو الـ27 عامًا من قضاء الهندية، لم يختر مسارًا مألوفًا في حياته، بل فضّل أن يخوض غمار مهنة نادرة تكاد تختفي من الأسواق، إنها صناعة السيوف، ذلك الفن العريق الذي كان يومًا رمزًا للقوة والشرف.

بدأت رحلة الشريفي مع السيوف كهواية في جمعها، مفتونًا بجمالها التاريخي، لكنه سرعان ما وجد نفسه مشدودًا إلى فن تشكيلها بيديه، فكرّس وقته لإتقان مهاراتها، جالس كبار الحرفيين مثل عمار الوائلي ومصطفى البازي، حتى أصبح قادرًا على صناعة سيوف تحمل بصمته الخاصة، تنطق بالقوة والجمال معًا.
يمر السيف بمراحل شاقة قبل أن يصبح تحفة تراثية. تبدأ العملية باختيار الحديد المناسب، وهو العنصر الحاسم الذي يحدد جودة السيف وقيمته. فمن الجوهر الدمشقي الذي يمتاز بنقوشه الفريدة، إلى الحديد الصلب الذي يعيد الشريفي تشكيله من قطع غيار السيارات مثل النوابض والمصدات، ليحصل على مادة تتحمل أقسى الظروف.

يقول الشريفي: “عندما يمسك الحداد المطرقة ويبدأ الطرق على الحديد المحمي، فإنه لا يصنع سيفًا فحسب، بل يحيي قصة تمتد لقرون”.
بعد تشكيل النصل، تبدأ مرحلة التلميع والنقش اليدوي، تلك اللمسات التي تمنح السيف روحه الفريدة. هنا، تظهر بصمة الصانع، حيث يقوم بحفر نقوش وزخارف مستوحاة من التراث، رافضًا استخدام التقنيات الحديثة كالنقش بالليزر، حفاظًا على الأصالة التاريخية.
لا يكتمل السيف إلا بغمد يليق به، حيث يُستخدم أجود أنواع الأخشاب، وتُضاف إليه الأحجار الكريمة والجلود الطبيعية، وفق طلب الزبون. بعض السيوف تُرصَّع بالذهب والألماس، لتصبح تحفًا فنية تزين قصور الشيوخ وكبار الشخصيات، وليس مجرد أدوات للقتال.
ورغم أن صناعة كل سيف تستغرق أسابيع، فإن الصانع لا يتعجل عمله، لأن السيف اليدوي يحمل في تفاصيله عبق التاريخ وإبداع الحِرفة. يؤكد الشريفي أن ختم صانع السيف يمنحه هوية خاصة، ويجعله إرثًا يورَّث للأجيال.

يختم الشريفي حديثه بأسى، قائلاً: “في العالم كله، تُحظى الحرف التراثية بالدعم والرعاية، إلا أننا هنا نقاتل للحفاظ عليها وسط الإهمال وقلة الاهتمام الرسمي”.
ويضيف: “السيف كان دائمًا رمزًا للقوة والشرف، واليوم هو رمز للهوية والتراث. نحن بحاجة إلى معارض فنية ومتاحف تحتفي بهذه المهن العريقة، كي لا نسمح لها بالاندثار”.
وسط زحام الحداثة، يقف الشريفي كحارسٍ لذاكرة السيف، مجددًا عهد كربلاء بالسيوف التي لم تكن يومًا مجرد أدوات حرب، بل شاهدًا على بطولة، وشعارًا لتراثٍ يأبى الاندثار.
