أفغانستان

من المغول إلى طالبـ،ـان… أفغانستان ومأساة متكرّرة من حرق الكتب ومحو الذاكرة الثقافية

من المغول إلى طالبـ،ـان… أفغانستان ومأساة متكرّرة من حرق الكتب ومحو الذاكرة الثقافية

تُعدّ أفغانستان واحدة من أكثر الدول التي عانت من التدمير الثقافي الممنهج على مرّ العصور، ويمثّل حرق الكتب أبرز مظاهر هذا الاستهداف المتواصل لإرثها الفكري والمعرفي، من اجتياح المغول في القرن الثالث عشر، وصولاً إلى عهد طالبـ،ـان الحالي.
ففي كل مرحلة من مراحل الاضطراب السياسي أو الاحتلال أو التطرف، تعرّضت المكتبات والمراكز التعليمية في البلاد لأعمال حرق ونهب، تم خلالها تدمير كنوز من المعرفة، سواء بسبب الكراهية الأيديولوجية أو محاولة طمس الهويات المتنوعة التي شكلت النسيج الثقافي الأفغاني.
خلال غزو المغول، سُجّلت واحدة من أكبر الجرائم ضد الثقافة حين أُحرِقت مكتبة “غزنة” الشهيرة، ولم تتوقف هذه السياسة حتى مع تقلب الحُكم بين سلالات متعاقبة، كان بعضها يستهدف كتب مذاهب أو أقوام معيّنة. ومع الاحتلال البريطاني، تعرّضت المراكز المعرفية لهجمات ممنهجة، ما أدى إلى ضياع كم هائل من المصادر.
ورغم محاولات التحديث التي شهدتها البلاد في بدايات القرن العشرين، تكرر سيناريو التدمير الثقافي مع الانقلابات والتدخلات الخارجية، خاصةً خلال الغزو السوفيتي، الذي شهد جمعًا لآلاف الكتب وإتلافها، بحجة معاداتها للأيديولوجيا الحاكمة آنذاك.
وتدهور الوضع بشكل كارثي في تسعينيات القرن الماضي خلال الحرب الأهلية، حيث تحوّلت كابول إلى أنقاض، ودُمرت مكتبات جامعة كابول وغيرها، وجُرّمت الكتب ذات المضامين الفكرية والفلسفية، خاصة تلك التي كتبها أو ألّفتها نساء.
أما فترة حكم طالبـ،ـان الأولى (1996–2001)، فقد مثّلت ذروة العداء للثقافة والمعرفة. فطالبـ،ـان لم تكتفِ بإغلاق المكتبات، بل عمدت إلى حرق الكتب التي اعتُبرت “غير شرعية” وفق تفسيراتها الضيقة، وشمل الحظر كتب التاريخ، الفلسفة، الأدب الحديث، وحتى بعض النصوص الدينية، في سابقة خطيرة قلّما شهدها العالم الإسلامي.
ومع عودة طالبـ،ـان إلى السلطة عام 2021، تجدّدت حملة القمع الثقافي، لتعيد مشاهد الحرق والمصادرة والرقابة المشدّدة على المكتبات والمؤسسات التعليمية، في مشهد يعيد التذكير بفصول سوداء في التاريخ الأفغاني. وقد أغلقت مراكز ثقافية، وحُجبت مكتبات إلكترونية، وتعرّضت الكتب المتعلقة بحقوق المرأة، الفنون، والعلوم الإنسانية للملاحقة والتلف.
ورغم هذا التراجع، يواصل ناشطون وكُتّاب ومعلّمون داخل أفغانستان وخارجها مقاومة هذا الانحدار من خلال مبادرات فردية وجماعية، بينها مكتبات سرّية، وفرق لتوزيع الكتب في القرى والمناطق المحرومة، وإطلاق مشاريع رقمية لحفظ التراث الأفغاني من الضياع.
إنّ حرق الكتب في أفغانستان ليس مجرد اعتداء على الورق، بل محاولة لاغتيال الوعي الجماعي وتهميش العقل. ومع ذلك، أثبتت التجربة الأفغانية أن المعرفة قادرة على البقاء رغم القمع، وأن جذوة الثقافة لا تنطفئ مهما اشتدت النيران.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى