العالم الاسلاميالمقالات

العلمُ يزكو وينمو بإنفاقِه وتعليمِه

لا مراءَ في أنَّ العلمَ ليس كنزًا يُختزنُ في الأذهانِ فحسب، بل هو رسالةٌ حيَّة، تنمو بالعطاء، وتثمرُ حين تُبذَل، وتزكو إذا أُنفِقَت. فالعلمُ كلما جرى على الألسنة، ولامسَ العقولَ الأخرى، ونُقِل من صدرٍ إلى صدرٍ، ازدادَ حياةً واتساعًا. هذه حقيقة خالدة في ضمير الحضارات، رسَّخها الإسلام حين جعل “زكاةَ العلمِ تعليمَه”، وربطَ بين طلبِه والعملِ به، وتعليمه للناس، فجعلها سلسلةً من النور، لا تنقطعُ إلا حين يُكتمُ العلم أو يُحتكَر.
وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام):
«يا كميل، العلمُ خيرٌ من المال، العلمُ يَحرُسُكَ وأنتَ تَحرُسُ المال، والمالُ تنقُصهُ النفقة، والعلمُ يزكو على الإنفاق».
فها هو الإمام عليّ (عليه السلام) يضع ميزانًا دقيقًا بين المال والعلم، فيُعلِن أن العلم، بخلاف المال، لا ينقص بالبذل، بل يزداد ويزكو، شأنه شأن الزرع الذي يُسقى فيُثمر، أو الشعلة التي تُضيءُ ما حولها دون أن تنطفئ.
وكما أن العلمَ يزكو بإنفاقِه، فإنه يترسَّخُ في القلبِ ويثبت في العقل بالمذاكرة والمدارسة، وقد ورد عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنه قال:
«من أكثرَ مدارسةَ العلمِ لم ينسَ ما عَلِم، واستفادَ ما لم يعلم».
إن هذه المقولة العميقة تفتح أمامنا أفقًا لفهم ديناميكية العلم في حياة الإنسان، فهو ليس عمليةً ساكنة، بل حركةٌ دائمة تحتاج إلى تكرار، وتفاعل، ومراجعة، لتستمر في النمو، ولتبقى حيّةً في وجدان طالبها.
ولم يغفل العقل الحديث ما أشار إليه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فقد أثبتت الدراسات العلمية في علوم الأعصاب أن تكرار المعلومات وتنشيط الروابط العصبية يُعزز التذكر، ويُقلّل من احتمالية النسيان. كما أن مراجعة المعلومات القديمة تُمهِّد لربطها بالجديدة، مما يمنح المتعلم فهمًا أعمق واستيعابًا أوسع. ومن هنا، فإن مدارسة العلم ليست مجرد صيانة للذاكرة، بل هي عملية تراكمية تبني فوق الأساس معرفة جديدة.
بل أكثر من ذلك، فإن المباحثة والمناقشة وطرح الأسئلة وتبادل الآراء، كلها تُسهم في صقل الفكر وتنشيط الذهن وتنمية مهارات التفكير النقدي، وهذا ما يجعل طالب العلم متفاعلاً حيًّا، لا مجرد متلقٍّ سلبي.
خمسُ نصائح لطالب العلم:
1- اجعل لك وقتًا يوميًا ثابتًا لمراجعة ما تعلمت، أو للتوسّع في موضوعات جديدة. فالاستمرارية هي مفتاح الرسوخ.
2- نوّع في مصادر تعلُّمك، فالزوايا المتعددة تفتح لك آفاقًا أرحب لفهم أدق وأشمل.
3- دوِّن أفكارك وملاحظاتك، فالكتابة تُثبِّت المعلومات وتُعيد ترتيب الذهن. وقد قال الإمام جعفر الصادق (عليه السلام):
«اكتبوا، فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا»، وقيل أيضًا: «ما حُفِظَ فرَّ، وما كُتِبَ قرَّ».
4- علِّم غيرك، فإن في التعليم إعادةً للعلم إلى نفسك بوجه أعمق، وبه تؤدي أمانة الرسالة، وتُسهم في بناء المجتمع.
5- اختبر نفسك دوريًّا عبر أسئلة أو مشكلات تطبيقية، فهذا يُساعد على كشف مواضع الخلل وترسيخ الفهم.
ختامًا، فإن العلم، كما الطهارة، لا يبقى إلا بتجديده، ولا ينمو إلا ببذله، ولا يُؤتي ثماره إلا إن زُرع في قلوب الآخرين. ومن اتخذ العلم زادًا، والإنفاق فيه منهاجًا، والمذاكرة له عادة، فقد وضع قدمه على طريق النور، ومشى في دربٍ سار فيه الأنبياء والأوصياء والعظماء.
فطوبى لمن عَلِمَ، وعلَّم، وعَمِل، وسارَ على هدى الحكمة، وجعل العلم رسالةً، لا رياءً ولا فخرًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى