إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام: هويةٌ خالدة ونبضٌ للحياة

إحياء أمر أهل البيت عليهم السلام: هويةٌ خالدة ونبضٌ للحياة
إحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام) ليس تقليدًا عابرًا ولا طقسًا اجتماعيًا ولد من رحم العاطفة فحسب، بل هو فعل ديني راسخ الجذور، مستمد من أقوال الأئمة أنفسهم، ومرتبط بجوهر العقيدة. لم يكن يومًا فلكلورًا شعبيًا يرويه الناس من باب العادة، بل هو امتداد لتكليف شرعي ورسالة إيمانية ترسخت في قلوب المؤمنين. هذه المجالس التي يقيمها المحبّون، والمآتم التي يحيونها، والمواسم التي يحتفون بها، كلها تنطلق من وصايا أهل البيت (عليهم السلام)، ومن ذلك ما رواه الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق (عليه السلام) حين قال: «تجلسون وتتحدثون؟» قال: نعم، جعلت فداك. قال: «إن تلك المجالس أحبّها، فأحيوا أمرنا يا فضيل، فرحم الله من أحيا أمرنا». وكذلك قول الإمام الرضا (عليه السلام): «من جلس مجلسًا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب».
السرّ في ديمومة هذه المجالس
ربما يكون هذا التأسيس من أهل البيت (عليهم السلام) هو السبب الأول لصمود هذه المجالس والمواسم رغم تقلبات الزمن وقساوة الظروف. فقد واجهت هذه الشعائر محاولات قمع لا تحصى، من حكومات مستبدة ومن جماعات متعصبة كانت ترى في صوت الحسين تهديدًا لسلطانها، وفي دمع الموالي سلاحًا أقوى من سيوفها.
ومع كل ذلك، استمرت المواكب، وارتفعت المنابر، وبقيت اللوعة، لأن هذه المجالس ليست فقط لإحياء الحسين، بل كما يقول البعض: «نحن لا نحيي الحسين، بل نحيا به». إن هذه الشعائر هي الروح التي تنبض في جسد الأمة، وهي «الأكسجين» الذي يستنشقه قلب المؤمن، فإذا انقضى الموسم، بقي أثره في الوجدان، يغذّي الروح حتى موسم قادم.
إحياء… لا استهلاك
لا عجب إذًا أن تجد أناسًا يبذلون المال والوقت والجهد في إقامة هذه المجالس، وهم يرون أنّ ما يقدّمونه قليل في مقابل ما قدّمه الإمام الحسين (عليه السلام). فالذي قدّم النفس والأهل والولد من أجل بقاء الدين، أليس من الوفاء أن يُذكر، ويُبكى عليه، ويُعلّم الناس قضيته؟!
الهوية في مأمن
ومن أبرز ما تحققه هذه المجالس: التعبير السلمي عن الهوية. ففي عالم يتصارع على الهويات الثقافية والدينية واللغوية، تبقى الشعائر الحسينية أسمى أنواع التعبير الهادئ. لا عنف فيها ولا عدوان، بل دمعة صادقة، وسوادٌ يلفّ الجسد تعبيرًا عن الحزن، ومجلس يفيض بالمحبة والمعرفة والولاء. يقول العالم: من أنا؟ وأين أنا من هذا التاريخ الممتد؟ والشيعي يجيب: أنا من أتباع الحسين، وهذا موسمي الذي أقول فيه للعالم من أكون.
الهوية ليست مجرد كلمات، بل هي ممارسة وشعور وانتماء، ولذلك فإحياء موسم عاشوراء هو هوية قائمة بذاتها، تعلن عن نفسها في الشوارع والمساجد والبيوت والقلوب.
موسم التغيير والمراجعة
ثمّة سرّ آخر يجعل لهذا الموسم هذه القيمة الكبرى، وهو كونه موسمًا للتحول الذاتي. الناس ليسوا حجارة، ومن يجلس عشر ليالٍ تحت منبر الحسين (عليه السلام) لا بد أن يتحرك فيه شيء. قد يهتدي شخص، وقد يتوب آخر، وقد يرتفع وعي ثالث. لقد رأينا من غيّرتهم قصة واحدة، أو موقف واحد من مواقف الطف، فكيف بمن يعيش فيضان كربلاء كل عام؟!
ملايين من البشر، في كل عام، يشحنون قلوبهم وعقولهم بزاد معرفي وروحي متجدّد، على مدى عشرة أيام أو أكثر، وهذه دورة سنوية لا يوجد لها مثيل في كل الديانات.
إن إحياء ذكر أهل البيت (عليهم السلام) ليس فعلاً عادياً، بل هو امتثال لتكليف، وتجديد للهوية، وبعث لحياة الروح، وصيانة للإيمان، ووقوفٌ دائم في وجه الظلم والظالمين. هو شعلة لا تنطفئ، وأمانة تتوارثها الأجيال، ما دام هناك من يحبّ الحسين ويهتف: “يا ليتنا كنّا معكم”.