يوافق للثامن والعشرين من شهر شعبان المعظم، الذكرى الستون لرحيل المرجع الديني الكبير سماحة آية الله العظمى السيد مهدي الحسيني الشيرازي (قدّ سره) صاحب الإرث الإسلامي العظيم والمؤسسات الدينية والإنسانية الضخمة، والفقيه الذي رجع إليه المقلّدون الشيعة بعد وفاة أستاذه المرجع الديني الإمام السيد حسين القمي (قدّس سره) لأكثرَ من 13 عاماً.
ويتذكّرُ محبو أهل البيت (عليهم السلام) كيف ضجّت مدينة كربلاء المقدسة بذكرى رحيله المؤلم، ولم يخرج العشرات ولا المئات.. بل الآلاف لتشييع جنازته والطواف بها في شوارع المدينة المقدّسة، كما وعطّلت الأسواق ونُشر السواد في مرقدي الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) حزناً على فراقه، وتوديعه حتى مثواه الأخير في مقبرة آل الشيرازي في الصحن الحسيني الشريف.
وشكّل فقيد الأمّة الإسلامية خلال حياته انعطافةً تاريخيةً وحضاريةً في المسيرة النهضوية للأسرة الشيرازية الكريمة، وأبرزها التصدي للمشاريع الاستعمارية الفكرية الداعية للإلحاد والتنكّر للدين والأخلاق.
والفقيد الراحل هو والد المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي (قدس سره) والمرجع الديني سماحة آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، المولود بمدينة كربلاء المقدسة عام ألفٍ وثلاث مائة وأربعة للهجرة، والتي تعلّم فيها قراءة القرآن الكريم، ثم انتقل مع والده السيد حبيب الله الحسيني الشيرازي بعمر السابعة إلى مدينة سامراء المقدّسة حيث أخذ دروسه الدينية الأولى وصولاً إلى مرحلة الاجتهاد في حوزة سامراء، وإعلان مرجعيته الرشيدة، وزعامته للحوزة الدينية بعد رحيل أستاذه القمي (قدّس سره).
عُرف الفقيد الشيرازي بورعه وتوقاه، ودخل التاريخ من أوسع أبوابه، إذْ أصبح من مشاهير الفقهاء الذين لا يمكن تجاوزهم أو تجاهلهم حين يبدأ الحديث عن الحوزة العلمية والعلماء.
ولم يكن رجل دين قد تخصص في إصدار الأحكام الشرعية وانزوى في صومعة ليتفرغ للدراسة والمطالعة حسب؛ بل كان يشارك المجتمع همومه في كل الجوانب الدينية منها والسياسية والاجتماعية. كان مدافعاً عن الحق وعن المذهب وعن مفاهيم العقيدة، سرعان ما يقف بجرأةٍ وصلابةٍ ويصدر فتواه بكل شجاعة حين يلمس أن البلد قد تعرض إلى غارة همجية يمكن أن تسلخ منه هويته الحقيقية.
في سامراء المقدّسة، تلقى (قدس سره) مبادئ العلوم من نحو وصرف ومنطق ومعاني وبيان وحساب وهندسة وغيرها، وقد عرف بين طلبة العلوم بجده ودرسه في التعلم والتعليم حتى ضرب المثل به، فكان ينام أبان اشتغاله في كثير من الأوقات ساعتين ونصف فقط في الليل والنهار وكان لا يفتر في ليل أو نهار عن المباحثة والمدارسة والمطالعة والحفظ، وحتى في أيام التعطيل.
وقد جد في الدرس حتى برع في الأدب واخذ ينظم الأشعار ويؤلف المقالات وقد قال رضوان الله عليه مرة انه مع كثرة ما درس المغني والمطول حفظ اكثرهما وكان أخريات أيام حياته يقرأ بعض عبارات هذين الكتابين.
كما حفظ القرآن الكريم ومقامات الحريري وألفية ابن مالك والتهذيب في المنطق والجزري في التجويد ومتن الشاطبي وشطراً من متن المطول وقد تتلمذ في فن التجويد على المقرئ السيد حسين الهندي رضوان الله عليه وكان يقول عنه انه كان نادرة في الذكاء والعلم وحسن الصوت وكان طبيباً حاذقاً.
وفي سامراء أيضاً درس الحساب والهندسة والتفسير والأخلاق والتجويد والجفر والطلسمات والدراية والحديث والرجال والهيئة.
وكان الراحل (رضوان الله عليه) إلى جانب اجتهاده في الدراسة يجتهد في تحصيل الملكات الفاضلة والزهد فكان يقتنع من الطعام بما تهيأ له حتى في أخريات أيام حياته وينام على الأرض، حتى إن والدته رضوان الله عليها منعته عن ذلك فقال لها: دعيني وشأني فإن العلم لا يحصل إلا بالزهد وقد نقل بعض الثقات أنه قضى أشهر الشتاء في سامراء إحدى السنين بقباء الصيف وكان إذا احتاج الماء في الشتاء القارس يغتسل في الحوض ونحوه غير مبال بما يصيبه من الالم.
وكان يخلو بنفسه كل يوم بعض ساعة لمراقبة أعماله حتى كتب في ذلك كراسات موبخاً نفسه على ما يفرط منها.
هاجر الراحل في أيام حصار الإنكليز للكوت إلى الكاظمية بإشارة من خاله الميرزا الشيخ محمد تقي الشيرازي (قدس سره) واشتغل بالدرس والبحث والحفظ، ثم سافر من الكاظمية إلى كربلاء المقدسة وصحب الميرزا محمد تقي الشيرازي قدس سره واشترك في ثورة العشرين ضد الاحتلال الإنكليزي.
ثم سافر إلى النجف الاشرف بسبب الظروف التي حالت بينه وبين الاستفادة من محضر أستاذه الميرزا (قدس سره) وهناك اشتغل بالعلم والعمل والزهد والعبادة وأقبل على تكميل النفس وتحليتها بالفضائل، فكان يحضر دروس الميرزا النائيني الشيخ محمد حسين والإمام الشيخ ضياء الدين العراقي. يشترك في البحث الكمباني للسيد الميرزا المجدد (رضوان الله عليه) ويباحث مع آية الله السيد ميرزا عبد الهادي الشيرازي (قدس سره)، وهذه هي المرة الثانية التي يحضر الراحل دروس النجف الاشرف، ومن ثم إلى كربلاء وتزعّمه للحوزة العلمية الشريفة بعد وفاة أستاذه القمي (قدس سره)، والتي بقي فيها حتى رحيله سنة (1380 هـ ـ 1961 م) عن عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً.