أخبارالعراق

بين الإرهـ،ـاب والديكتاتورية: العراق.. وطن المقابر الجماعية

في أرضٍ مثقلةٍ بالذكريات والدموع، لا تزال المقابر الجماعية في العراق تنبش الماضي المؤلم وتصرخ في وجه العالم بصمتٍ مروّع، شاهدة على عقودٍ من القمع والإرهـ،ـاب والصراعات التي التهمت أرواح الأبرياء من كل الطوائف والانتماءات. لم تكن هذه المقابر مجرد حفرٍ في الأرض، بل جروحًا غائرة في جسد وطنٍ لم يعرف الاستقرار منذ عقود، وطنٍ بات يحمل واحدًا من أثقل السجلات العالمية في عدد المقابر الجماعية، كأن الأرض لم تعد تُنبت إلا الحزن.
عراق المقابر المنسية
في مناسبة اليوم العالمي للمقابر الجماعية، كشف النائب العراقي مختار الموسوي أرقامًا تقشعر لها الأبدان، مشيرًا إلى أن عددًا كبيرًا من تلك المقابر لم يُكتشف بعد، وأن أكثر من 60 إلى 70% من المفقودين بعد عام 2014 لا يزال مصيرهم مجهولًا، وقد ضاعت رفاتهم في متاهات الزمن والنسيان. خلف كل قبر جماعي، قصة أمٍّ تنتظر، وأبٍ يشيخ على عتبة أمل، وأطفالٍ كبروا على صورة مفقود لا يعرفون مصيره.
هذا النزيف المستمر بدأ منذ عهود الديكتاتورية والقمع، ومرورًا باجتياح الإرهـ،ـاب الذي جسّده تنظيم د1عش بمجازره الجماعية، فلم تبقَ مدينة عراقية إلا وخبّأت في ترابها مأساة جماعية، وغالبًا ما تضم المقابر نساءً وأطفالًا وشيوخًا، قُتلوا بلا ذنب، سوى أنهم وُجدوا في المكان الخطأ تحت سلطة الاستبداد أو في مرمى نيران الكراهية.
ذاكرة لا تموت
ليست هذه المقابر سوى الشاهد الأبكم على انهيار العدالة وتفشي الإفلات من العقاب. قسم كبير من المتورطين فرّ إلى خارج البلاد، وآخرون ما زالوا طلقاء، فيما تنتظر العدالة أن تنهض من ركام السياسة والانقسام، لتُنصف الضحايا وتُعيد شيئًا من الكرامة إلى ذويهم.
وما زالت المفاجآت مستمرة، إذ كشفت مصادر محلية مؤخرًا عن العثور على مقبرة جماعية جديدة شرق قضاء سنجار، تحت منزل مدمر. وجدت العائلة العائدة من النزوح سبعة إلى ثمانية هياكل عظمية، دفنت تحت أنقاض الدمار، ربما لمقاتلين أو مدنيين، لا فرق، فالحصيلة واحدة: موت صامت ونهاية مأساوية.
العدالة المؤجلة
ليست هذه الحوادث مجرد ماضٍ يُستحضر، بل قضية حاضرة يجب أن تكون في صميم الهم الوطني، كما أكد الموسوي، داعيًا إلى تحرّك قضائي وأمني حقيقي لملاحقة الجناة ودعم أسر الضحايا الذين يعيشون وجع الفقد والانتظار.
منذ سقوط النظام البعثي إلى غزو الإرهـ،ـاب، لم يجد العراق لحظة يتنفس فيها السلام. وعلى الرغم من التشريعات والمؤسسات، تبقى الحقيقة الأكثر إيلامًا أن الرفات تُكتشف، لكن الهوية غالبًا ما تظل غائبة، والمجرم مجهولًا أو متروكًا.
من الذاكرة إلى الضمير
لا يمكن للعراق أن يخطو نحو المستقبل، إلا إذا وقف مع ماضيه بشجاعة. المقابر الجماعية ليست فقط شاهدًا على الجرائم، بل وصمة في جبين العالم الذي صمت طويلًا. آن الأوان أن يتحوّل هذا الملف إلى أولوية وطنية وأممية، تُلاحق فيها العدالة القتلة، ويُحفظ فيها للضحايا حقهم في الاعتراف والكرامة.
المقابر الجماعية ليست مجرد ترابٍ غطّى العظام، بل ذاكرة حيّة يجب أن تبقى في الضمير. إنها صرخة الغائبين، ورسالة واضحة: لا سلام دون عدالة، ولا وطن دون كرامة تحفظه من أن يتحوّل مجددًا إلى أرض للموت الجماعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى