مسجد الحمراء في الكوفة.. شاهدٌ على التاريخ والعبادة ومقامٌ يرتبط بسيرة النبي يونس (عليه السلام)

امتازت مدينة الكوفة الإسلامية منذ نشأتها بأهمية خاصة للمساجد، إذ لم يكن وجودها مجرد مرفق ديني، بل بُنيت كجزء جوهري من النسيج العمراني والاجتماعي للمدينة، وقد حرص المسلمون الأوائل على أن يضم كل حي مسجداً ينسب إلى سكانه أو قبيلته. غير أن هذا الحضور المكثّف للمساجد لا يخلو من تساؤلات حول نوايا التأسيس، فهل كانت كل المساجد تُبنى خالصةً لوجه الله تعالى؟ أم إن بعضها أُقيمت لأغراض أخرى تخفيها شعارات التقوى والعبادة؟

هذا ما أشار إليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين تحدث عن مساجد الكوفة، فميّز بين مساجد “مباركة” وأخرى “ملعونة”، مستشهداً بقوله تعالى: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ﴾ (التوبة: 108).

ومن بين المساجد التي عدّها الإمام علي (عليه السلام) مباركة، يبرز “مسجد الحمراء” الواقع على نهر الفرات في الكوفة، والذي يعرف اليوم باسم “مقام النبي يونس (عليه السلام)”، ويقصده الناس للصلاة والدعاء، حيث يمكن رؤية لوحة فنية قديمة تُظهر النبي يونس لحظة خروجه من جوف الحوت.
وقد شهد المسجد خلال السنوات الأخيرة حملة إعمار كبيرة، استمرت بشكل متقطع، قبل أن تبرز اليوم معالمه بشكل واضح مع ارتفاع منارتيه وقبتيه، ما دفع فريقاً من المهتمين إلى زيارة موقع العمل وتوثيق تاريخه وتفاصيل تشييده.

أصل التسمية وبداية التأسيس
تشير المصادر التاريخية إلى أن “الحمراء” هم جماعة من الأعاجم الموالين، سكنوا منطقة السبخة المطلة على الفرات شرقي الكوفة، منذ عهد التمصير، وأنشأوا مسجداً خاصاً بهم. ويُرجّح أن الإمام علياً (عليه السلام) كان أول من أشار إلى هذا المسجد باسمه، وبيّن في عدة روايات موقعه وأهميته، مشيراً إلى نبع ماء سيظهر عنده لاحقاً، وهو ما فسّره بعض المؤرخين بأنه من علمه بالمغيّبات.
وتُطلق العرب لفظ “الحمراء” عادة على غير العرب من ذوي البشرة البيضاء المشوبة بحمرة، نتيجة لطبيعة مناطقهم الجبلية وهوائهم الصافي، ويُعتقد أن هؤلاء العجم اختاروا موقع مسجدهم عند موضع يُنسب إلى النبي يونس (عليه السلام) تعظيماً لمكانته.

ارتباط المسجد بالنبي يونس (عليه السلام)
يُثار جدل تاريخي بين الباحثين حول ما إذا كان الموقع مرقداً للنبي يونس (عليه السلام) أو مقاماً له، إذ يذهب بعضهم إلى أنه مرّ بالمكان وصلى فيه، بينما يرى آخرون أنه دُفن في الموصل، وتحديداً في منطقة “تل توبة”، كما ينقل الشيخ حسين النوري. بينما يرى البعض أن له قبراً في قرية “حلحول” قرب الخليل في فلسطين، وهو ما يؤكده ابن العربي الذي زار القبر مراراً.
ورغم ذلك، فإن أهمية مقام النبي يونس في الكوفة تظل حاضرة في الوعي الشعبي، ويعزّزها التاريخ الشفهي والزيارات المستمرة للموقع، إلى جانب إشارات الإمام علي (عليه السلام) التي منحت المكان قدسية خاصة.

تراث عمراني وبُعد روحي
كان مسجد الحمراء محاطاً ببساتين وحقول قرب الفرات، قبل أن يتغيّر المشهد بفعل التمدد العمراني، ليصبح الموقع اليوم جزءاً من شريط سكاني يضم منازل واستراحات ومرافق حديثة، ويُعد جزءاً من كورنيش الكوفة النشط.
وتُسجّل الروايات أن النبي يونس (عليه السلام) قضى ثلاث سنوات وثلاثين يوماً يدعو قومه في نينوى، ولما كفروا به دعا عليهم بالعذاب، ثم غادر إلى البحر وابتلعه الحوت. وبعد توبته عاد إلى قومه فآمنوا به، قبل أن يتوفاه الله لاحقاً. وترى بعض الروايات أن مروره بشط الكوفة كان في طريقه إلى مكة، وهو ما يزيد من رمزية الموقع كمكان عبادة وتوسل.
مسجد الحمراء اليوم
يستعيد المسجد اليوم جزءاً من مجده، بعدما بانت معالمه التاريخية في عملية إعادة الإعمار، التي حافظت على أصالة المكان مع لمسات إنشائية حديثة. وقد أعادت هذه الأعمال الروحية والحضارية الاعتبار لهذا المسجد التاريخي، ليعود شاهداً على عبق الرسالات وموقعاً للتقوى والعبادة.
مسجد الحمراء ليس مجرد بناء من الطين والحجر، بل ذاكرة حيّة لمرحلة من تاريخ الكوفة، ورمزٌ للصراع بين الإخلاص والرياء في بناء دور العبادة، كما أراده الإمام علي (عليه السلام).