أخبارالمقالات

كربلاء.. حينما انتصر الدم على السيف

في زمنٍ شُيِّدت فيه العروش على أنقاض القيم، واستُبيحت فيه الحقيقة بسيوف التحريف، لم يكن صوت الإمام الحسين “عليه السلام” إلا نداء السماء الأخير في وجه الأرض، نداءً ما زال صداه يدوّي في ضمائر الأحرار كلما نبح فقهاء البلاط، وارتفع صوت المنابر المأجورة التي باعت الدين في سوق السياسة.
لم تكن ثورته عليه السلام لحظة انفعال، ولا ردّة فعل لمظلمةٍ شخصية، بل كانت نبضَ النبوّة المتجدد في عروق الزمن، حين لفظت الأمة أنفاس يقينها، واستسلمت لطغيان بني أمية، الذين صعدوا على أكتاف الصحابة، واغتالوا الدين في محرابه، واستبدلوا العدل بالإرهـ،ـاب، والورع بالرياء، والخلافة بالملك العضوض. لقد بدت الخلافة يومئذٍ جُبّةً فضفاضة يتوارى فيها الطغاة، ويتزينون بها أمام العامة، حتى التبس الحق بالباطل، وأصبح الماسك دينه كالقابض على الجمر.
في هذا الظرف العصيب، نهض الحسين، لا حاملاً سيفاً، بل حاملاً أمانة النبوّة، وصوتاً أراد له الله أن لا يخفت. نهض ليقول “لا” في وجه الزيف، ليكشف عن وجه الأمة وهي تبارك جلادها، وتصفّق لمن يسرق قرآنها. نهض ليقيم الحُجّة، ويوقظ الضمائر، ويمنح الكرامة معنى آخر، لا تصوغه الكتب بل تكتبه الدماء.
وكانت كربلاء، حيث لم يكن النصر مرهوناً بالبقاء، بل بالشهادة. هناك، على رمالها المحرقة، انبثقت أعظم ملحمة عقائدية في التاريخ، سطّرها سبط النبي وأهل بيته وأنصاره، الذين اختاروا الموت على حياةٍ يعلو فيها صوت يزيد ويُقمع فيها صوت محمد. رجالٌ لم يلبسوا دروعهم، بل لبسوا قلوبهم، ورموا بأنفسهم في ساحة الحق كما تُرمى الأرواح في محاريب العشق الإلهي، متحررين من الخوف، ومن فتنة الدنيا، ومن وعد السلامة.
لقد أنذرهم الإمام الحسين عليه السلام ليلة العاشر، فتح لهم باب الانصراف، وقال: “لا أكره أحداً منكم على صحبتي”، لكنها كانت صحبة الحُبّ واليقين، فاستصغروا الحياة دونه، واستعذبوا الموت بين يديه، فانكشف بذلك معدن الولاء، وظهر الفرق بين من يموت في حضن الحق، ومن يقتات على فتات السلطان.
في كربلاء، تتجلى ثلاثيةٌ لا تزال تطاردنا: وعّاظ السلاطين الذين يقبّلون يد الباطل تحت عباءة الدين، والخونة الذين يبيعون ضمائرهم على موائد الحاكم، والمترددون الذين يعرفون الحق ويصمتون خوفاً أو طمعاً. أما أصحاب الحسين، فهم الحجة الخالدة على أن النصر لا يُقاس بالعدد، بل بالموقف. لقد انتصروا لا لأنهم قتلوا عدوهم، بل لأنهم فضحوا الزيف، وأسقطوا الأقنعة، وعلّمونا أن الدم حين يكون في كفّ الحسين، فهو أمضى من السيف في يد الطغاة.
كربلاء إذن ليست حادثة تاريخية، بل ميزان وعي، ومحراب ثورة، ومدرسة لا تخرّج إلا أحراراً. من لم ينتفض قلبه لنداء الحسين، فلن ترجف مشاعره أمام أي مظلوم. ومن لم يستفق على وقع صرخته، فسيبقى أسير الطغيان، مهما تغيرت أسماء الجلادين.
فيا أمة الحسين، لا تجعلوا كربلاء مأتماً للدموع فقط، بل اجعلوها محرّكاً للعقول، ومنبعاً للكرامة، ووصيّةً خالدة تقول لكل جيل: “إذا رأيتم الدين يُباع، فكونوا حسينيين”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى