أخبارالعالم الاسلاميالمقالات

الوجه الآخر للاستشراق.. هكذا انتصرت أقلام غير المسلمين للدم الحسيني

في خضم الصراعات الفكرية والسياسية التي عصفت بالعالم الإسلامي، شكّلت ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) منعطفًا إنسانيًا فريدًا تجاوز حدود المذهب واللغة والانتماء، لتتحول من مجرّد واقعة تاريخية إلى رمز خالد للعدالة والكرامة الإنسانية. ومع أن هذه الثورة وُلدت في رحم البيئة الإسلامية، فإن صداها لم يتوقف عند حدودها، بل تعدّاها إلى الضمير الإنساني العالمي، ووجد صداه في أقلام مفكرين ومؤرخين من غير المسلمين، حملوا مشاعل الإنصاف وواجهوا حملات التزييف والتشويه، ليكشفوا عن وجهٍ آخر للاستشراق؛ وجهٍ أقلته الحقيقة لا المصالح، والبحث لا الانحياز.
في الوقت الذي انشغل فيه بعض المستشرقين بتكريس الرواية الرسمية التي باركتها السلطات، ونظروا إلى الثورة الحسينية من زاوية “التمرد على الشرعية”، برزت أسماء أخرى تناولت كربلاء من منظور الضحية لا الجلاد، ومن زاوية المقاومة لا العصيان. هؤلاء المنصفون لم يروا في الحسين (عليه السلام) مجرد شخصية دينية متمردة، بل بطلًا إنسانيًا واجه منظومة الظلم بإرادة تفوق حسابات القوة، وشجاعة لا تستقي من العروش شرعيتها، بل من القيم الخالدة.
لقد انقسم المستشرقون أمام كربلاء إلى معسكرين واضحين: معسكر تغذّى من مؤرخين مؤدلجين، فجعل من يزيد بن معاوية حاكمًا شرعيًا ومن الحسين خارجًا عليه، ومعسكر آخر اتكأ على ضميره المعرفي، ونظر في تفاصيل الواقعة بأناة، ليكتشف أن ما جرى لم يكن سوى ذبحٍ مروّع للحق باسم الدين، فاختار أن ينتصر للدم لا للسيف، وللحق لا للسلطة.
ومن المفارقات أن بعض هؤلاء المنصفين، وهم خارج الدائرة العقائدية الإسلامية، عبّروا عن فهم عميق لمظلومية الحسين وأهل بيته (عليهم السلام)، وكتبوا عنهم بإجلال يفوق ما خطّته أقلام محسوبة على المسلمين أنفسهم. لقد رأى هؤلاء أن في كربلاء من العبرة ما يتجاوز حادثة القتل نفسها، ليغدو الحسين رمزًا عالميًا للمقاومة، النضال ضد التمييز، ومواجهة آلة الظلم بصدر عارٍ ونفس مؤمنة.
ومع أن تيارًا واسعًا من الاستشراق خضع لمعادلات سياسية واقتصادية جعلته يرى في الدولة الأموية نموذجًا للسلطة “القابلة للتطويع”، إلا أن الأقلام الحرة التي رفضت هذه التسويات أبت إلا أن تقول كلمتها في حق الحسين عليه السلام، ففضحت الزيف، وكسرت احتكار الحقيقة، وقدّمت للعالم وجهًا آخر للإسلام، لا كما رسمه سيف يزيد، بل كما خطّه دم الحسين الطاهر على أرض كربلاء.
إن الوجه الآخر للاستشراق يكشف عن قدرة الفكر الحرّ على تجاوز الانتماءات الضيقة، حين يتحرر من سلطة الأهواء والمصالح، ليكتب بحبر الضمير لا بلون السياسة. ومن هنا، فإن انتصار أقلام غير المسلمين للدم الحسيني لا يمثل مجرد موقف أخلاقي، بل شهادة عالمية بأن الحق إذا نُحر يومًا على الثرى، فإن للتاريخ ضمائر حيّة تنبض بالإنصاف، وتعيد للضحايا صوتهم المسلوب، ولو بعد قرون.
فكربلاء إذًا ليست ذكرى مذهبية، ولا مشهدًا بكائيًا فحسب، بل مرآة عالمية تعكس وجوه الظالمين والمظلومين، وتضعنا جميعًا، مسلمينا وغير مسلمينا، أمام سؤال جوهري: مع من نقف حين يُذبح الحق باسم الدين؟ ومع من نكتب حين يُخرس صوت العدالة بحدّ السيف؟
هكذا انتصرت أقلام المنصفين للحسين عليه السلام، وهكذا سيبقى الحسين عليه السلام ميزانًا تُوزن به القيم والضمائر إلى آخر الدهر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى