أخبارالعتبات والمزارات المقدسةالمرجعية

المرجع الشيرازي الراحل.. البقيع برؤية دينية وعمق حضاري

فيما تتجدد المطالبات بين الحين والآخر بإعادة إعمار قبور أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في بقيع الغرقد، تبرز رؤية المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدّس سرّه) كأحد أبرز الأصوات الداعية للحفاظ على هذا المعلم التاريخي والديني، انطلاقًا من إيمانه العميق بقيمة الآثار الإسلامية وقدرتها على بث الوعي الديني والثقافي وتعزيز الهوية الإسلامية.
لقد كان البقيع في نظر الإمام الشيرازي أكثر من مجرد مقبرة، بل فضاءً حيًّا للبركة والاعتبار، إذ يحتضن أجساد أئمة معصومين، وزوجات النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وصحابته الكرام، وهو ما يجعل من إعادة إعماره ضرورة شرعية وتاريخية وحضارية، لا مجرد مطلب عاطفي أو مذهبي.
وفي إطار تحليله لقضية البقيع، يرى المرجع الراحل أن الآثار الإسلامية، وعلى رأسها قبور الأئمة، تمثل مصادر للهداية والاعتبار، وأن حفظها واحترامها هو مطلب ديني وعقلي وإنساني. وقد دعم رؤيته باستشهادات قرآنية تعزز مشروعية الالتفات إلى الآثار والنظر إليها، مثل قوله تعالى: (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ)، في إشارة إلى أن القرآن يحثّ على التأمل في آثار من سبق.
وانطلاقًا من هذه الرؤية، انتقد الإمام الشيرازي بشدّة عمليات هدم قبور البقيع، معتبرًا أن تبريرها بذريعة التوسعة لا يستقيم مع المنطق ولا مع الشرع، مشيرًا إلى أن الأمم الواعية تحتفظ بآثارها مهما اختلفت خلفياتها الدينية والحضارية، فكيف إذا كانت هذه الآثار تعود إلى أنبياء وأوصياء؟!
إن مقارنة المرجع الشيرازي بين الحفاظ العالمي على أهرامات مصر أو مواقع عبور الأنبياء، وبين ما جرى من إهمال أو هدم في المدينة المنورة، تكشف عن عمق رؤيته الحضارية، فهو يرى في البقيع رمزًا للهوية الإسلامية الجامعة، وغياب هذا الرمز فراغًا يهدد ذاكرة الأمة.
ويذهب الإمام الراحل إلى أبعد من ذلك في تسليط الضوء على البعد المعنوي للأماكن المقدسة، مستشهدًا بقصص قرآنية تعكس أثر بعض الموجودات المباركة، كقميص يوسف (عليه السلام)، أو تراب أثر الرسول كما في قصة السامري، مؤكدًا أن للأماكن المباركة طاقة روحية لا ينبغي الاستهانة بها.
رؤية الإمام الشيرازي لقضية البقيع تنطلق من فكر إصلاحي عقلاني، قائم على احترام التراث، وتعظيم شعائر الله، والربط بين الماضي والحاضر. وهي دعوة تتجاوز الحدود الفقهية والطائفية، لتكون نداءً إلى الضمير الإسلامي والإنساني بضرورة صون ما تبقى من الذاكرة الحية للأمة.
وفي ظل استمرار حالة الجمود في ملف إعادة إعمار البقيع، تبقى هذه الرؤية نداءً ملحًّا يستحق الوقوف عنده، لما تحمله من حسّ حضاري وديني وإنساني، قد تُمهد لخطاب جامع يُعيد الاعتبار للآثار الإسلامية، ويُخرج قضية البقيع من التسييس إلى أفق الاحترام التاريخي والتقارب الإسلامي.
ويبقى كلام المرجع الراحل (قدّس سرّه) شاهدًا على هذا الهمّ العميق، حين قال:”إن إزالة العشرات من آثار رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآله الأطهار وأصحابه الكرام باسم توسيع مسجد النبي أمر غير عقلائي وغير شرعي، بل تضييع للتراث الإسلامي والتاريخي… فإن في الآثار ذكرى وتذكيراً، وفيها عبرة واعتباراً، وأيضاً لها قوة جذب وتأثير، ومن هنا فإن من الواجب الاهتمام بالآثار والمحافظة عليها والبحث عنها والكشف عن أسرارها.”
إنها دعوة إلى إعادة البصر والبصيرة نحو تراث البقيع، بكل ما يحمله من رمزية دينية، وعمق إنساني، وقيمة حضارية لا تقدّر بثمن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى