أخبارالعالم الاسلاميالعتبات والمزارات المقدسة

«البقيع» جرحٌ في قلب الأمة وراية لا تسقط

في قلب المدينة المنوّرة، وعلى مرمى بصر من مسجد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، تمتدّ مقبرة البقيع الغرقد شاهدةً صامتة على مجدٍ تليد، وذكرى موجعة، وتاريخٍ دفن مع أعلامه تحت ترابٍ طاله الجفاء قبل أن يطاله النسيان. إنها الأرض التي احتضنت أجساد النخبة الطاهرة من آل بيت النبوة وصحبه المنتجبين، فسُمّيت بحق “جنة البقيع”، وهي الجرح المفتوح في وجدان الأمة، وراية لا تنكّس، وإن طوتها أعوام القهر والإهمال.
ما إن يطأ الزائر أرض البقيع حتى يشعر أنّه على أعتاب قداسةٍ تفيض على الزمان والمكان. هنا يرقد الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ثاني أئمة أهل البيت وسيد شباب أهل الجنة. وإلى جواره الإمام زين العابدين (عليه السلام)، والإمام محمد الباقر (عليه السلام)، والإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، أولئك الذين حموا الشريعة بسيرتهم، ورفعوا لواء الإسلام بعلمهم وصبرهم وجهادهم. ولا تكتمل صورة الطهر في البقيع دون ذكر أمهات المؤمنين، وصفوة الصحابة، ونخبة التابعين، الذين شكّلوا البنيان الأول للأمة وأركان نهضتها.
لم يكن البقيع مزارًا لطائفة دون أخرى، بل كان مهوى أفئدة المسلمين على اختلاف مذاهبهم، يجتمعون فيه على حب آل البيت وتكريم الصحابة الصالحين. كان مقامًا للخشوع، ومنارةً للصلة الروحية بالتاريخ المحمّدي. إلا أنّ يدًا عمياء امتدّت لتُطفئ هذا النور، فهُدمت القباب، وجُرفت المعالم، ودفنت الكرامة تحت ذرائع لا تصمد أمام منطق العقل والدين.
في الثامن من شوال سنة 1344هـ، شهد البقيع نكبته الكبرى، حين أقدمت السلطات الوهابية المدعومة من آل سعود على تدمير أضرحة الأئمة والصالحين، في جريمةٍ هزّت وجدان العالم الإسلامي، ولا تزال ذكراها تتردّد في كل صرخة مظلوم وكل دمعة زائر محروم.
لم يكن الهدم عملاً معمارياً فحسب، بل كان إعلاناً صريحاً عن مشروعٍ عقائدي يُقصي كل ما يخالفه. تذرّع القائمون على الجريمة بـ”توحيد العبادة” ومحاربة “البدع”، غير عابئين بحرمة القبور أو مكانة من احتضنهم الثرى. ولم يقف استهدافهم عند أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، بل شمل قبور زوجات النبي (صلى الله عليه وآله)، وابنه إبراهيم، وفاطمة بنت أسد رضوان الله عليهما، ما يُظهر استهانةً سافرة بكل الرموز الجامعة للمسلمين.
رغم الصمت الدولي، ورغم محاولات طمس القضية، ظلّت ذكرى البقيع حيّة في ضمير الأمة. انطلقت الاحتجاجات من النجف وقم وكربلاء، ووصل صداها إلى الهند وإيران والعراق وسائر بلاد المسلمين. العلماء، والمراجع، والمفكرون، والمحبون لأهل البيت، عبّروا عن رفضهم لهذا الانتهاك الخطير، رافعين راية الدفاع عن المقدسات بوجه كل من يسعى لتجريد الإسلام من ذاكرته الروحية.
إنّ الدفاع عن البقيع ليس مجرد ردّ اعتبار لمعالم أثرية، بل هو موقف حضاري وإنساني، ورسالة للأجيال القادمة بأن لا تنسى جذورها، ولا تسكت عن الظلم. ومهما توالت السنون، فإنّ ما هُدم باليد لا يُمحى من القلب.
فليكن الثامن من شوال يوماً للوفاء، ويوماً للوعي، تتّحد فيه الأصوات من كل حدبٍ وصوب، مطالبة بإعادة بناء البقيع، وصون ما تبقّى من المقدسات، ورفض تحويل الدين إلى ساحة صراع سياسي أو تأويل ضيق لا يرى في التراث إلا ما يوافق هواه.
إنّ قضية البقيع لم تُغلق، بل لا تزال مفتوحة على اتساع جراحها، تنادي الضمائر الحيّة، وتستنهض الغيارى على إرث النبي (صلى الله عليه وآله) وآله (عليهم السلام). فالبقيع ليس طينًا نُكّس، بل شمسًا غيّبتها الغيوم… وشمس الحق لا تغيب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى