منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) هو المنهج الصالح في الحياة، وهو العيش السعيد والتقدم نحو الأمام، والخلاص من التخلف واليأس والإحباط، وهو الحاجة الأساسية التي يحتاجها البشر لكي يخرج من قوقعة الأزمات والمشكلات، ولو أن العالم سار على منهج الإمام علي (عليه السلام)، (لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِم ومِن تحتِ أرجُلِهِم رَغَداً) كما قال الإمام علي (عليه السلام) ولفتح الله عليهم بركات من السماء والارض.
إن ما يميز منهج الإمام علي (عليه السلام) أنه قائم على المبادئ، وهذه نقطة محورية وأساسية، لأن كل الأشياء تحدث اليوم بسبب المصالح المدمرة والمهلكة والكارثية، التي تؤدي إلى الصراعات وإلى عالم متمحض في الأنانية ومستغرق في الأزمات والصدامات، وكذلك قام منهج الإمام علي (عليه السلام) على الإنصاف، وعدم التمييز واتّصف بالمساواة وعدم الاحتكار، وهذه الأمور تجعل من البشر متآلفين متقاربين. لأن الكراهية تنشأ عند البشر عندما يستأثر أحدهم بالمغانم ويترك الآخرين بلا شيء.
ثالثا: منهجه استراتيجي شامل
النقطة الثالثة في منهج الإمام علي (عليه السلام)، أن منهجه استراتيجي شامل، يعالج المشكلات من جذورها، بعيد المدى في النظر في النهج الذي يسير عليه، لا ينظر إلى المغانم والمكاسب الجزئية، كما يفعل بعض الساسة، فالسياسي اليوم هو رجل تكتيكي وإن كان صالحا، لكنه في عمومه هو تكتيكي يفكر بالأرباح الآنية، وإذا كان صالحا يفكر بحل المشكلات الحالية أو الآنية، ولا يفكر بالحلول بعيدة المدى.
أما إذا كان غير صالح فإنه بالنتيجة يفكر بالمكاسب والمغانم وكيف يحقق الأرباح فيصنع الكوارث والمشكلات، ويعقّد حياة الناس، ويضعهم أمام صعوبات هائلة لا يستطيعون بسببها أن يعيشوا عيشا صالحا وسليما.
كما نلاحظ ذلك حاليا في المجتمعات التي تعيش الإحباط والمشكلات والأزمات، والسبب هو الحكومة التي تقوم على نظام يعقّد حياة الناس، وهي عبارة عن بيروقراطية منغلقة على ذاتها، وبالنتيجة تضر الناس أكثر مما تنفعهم، فعندما تنشأ البيروقراطية على الأخطاء فإنها سوف تتراكم، وتُنشئ أعرافا سيئة، تؤسس للظلم والحيف، وتبني مجتمعا يعيش الحالة الازدواجية، ليس فيه عدل، والعدل هو أساس السلام.
فإذا أردت السلام لابد أن تعمل بالعدل، وهذه الخطط الآنية والوقتية والتكتيكية التي لا تملك نظرة بعيدة المدى ولا رؤية استراتيجية، تؤسس للظلم والجور، لأنها لا تفكر في المخاطر التي يمكن أن تواجه المجتمع، وإنما تفكر في حل مشكلاتها الآنية فقط.
متى يحصد الإنسان اللاشيء؟
عندما نلاحظ أنه قبل 10 سنوات أو 15 سنة أو 20 سنة، كان لابد من العمل بصورة صحيحة، لكن العمل بصورة خاطئة جعل الأخطاء تتراكم باستمرار إلى أن أصبحت المشاكل معقدة، فلابد من التأسيس الصحيح، وقد عمل الإمام علي (عليه السلام) بالتأسيس الصحيح البعيد المدى، والذي ينظر إلى النتائج، فكل عمل يفعله الإنسان أو المجتمع له عاقبة وله نتيجة راسخة ومستمرة.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً ومَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ)، هنا الرؤية بعيدة المدى، فالعدل واسع جدا وليس فيه ضيق، ولا ظلم، ولكن الإنسان المتعجِّل ومن يكون بصره في عينه فقط، ولا ينظر إلى المخاطر ولا إلى العناصر المكملة، ولا إلى الفوائد التي يحصل عليها في المستقبل، ويكون متعجلا في عملية حصد الأرباح الآنية، فهذا هو الجور، لأن الإنسان الذي يتعجّل في حصد الثمار بغير وقتها لا يحصد شيئا، بل هو يحصد اللاشيء، فيكون الجور عليه أضيق.
الربح المستقبلي الاستراتيجي
لذلك فإن مكاسب العمل التكتيكي لا ربح فيها، وإنما خسارة، لأن الربح الحقيقي هو الربح المستقبلي الاستراتيجي أو الربح بعيد المدى، لذلك رؤية الإمام علي (عليه السلام) تؤكد بأن العدل عملية بناء متكاملة بعيدة المدى، فلا تستعجلوا في حصد المكاسب التي تبحثون عنها، فأن تظلم الآن ثم تعدل بعد مدة من الزمن رؤية غير صحيحة.
أي تفرضْ على الناس القوة والقسر والقمع لكي يتحقق النظام وتنتهي الفوضى والعشوائية، وتبني مجتمعا منظما قانونيا، وعندما يستتب الأمر تعدل بين الرعية، أمر غير ممكن لأنه ضد القانون التكويني في الحياة، فلا يمكن أن تبني شيئا بالظلم لأنه ينطوي على تناقض، فالعدالة تُبنى بالعدالة ولا يُبنى العدل بالجور فهذا خطأ كبير.
لذلك فإن الذين يسيرون في هذا الطريق لا يصلون، وتزداد مشاكلهم لأن (الجور عليهم أضيق)، هذه هي الرؤية الاستراتيجية للإمام علي (عليه السلام)، وهناك حديث آخر يفسّر الحديث الأول بشكل أوسع، يقول فيه الإمام علي (عليه السلام): (اسْتَعْمِلِ الْعَدْلَ وَاحْذَرِ الْعَسْفَ والْحَيْفَ فَإِنَّ الْعَسْفَ يَعُودُ بِالْجَلَاءِ وَالْحَيْفَ يَدْعُو إِلَى السَّيْفِ)، فاحذر التعسف، لأنه لا يمكن أن تفرض القانون والعدالة بالقوة الخشنة والقمع.
والحيف تأتي من الحوافّ أو من الحافة، والقصد منها أن الإنسان يطبق نصف العدل لكنه يظلم، أو يعطي نصف الحق للآخرين، كما يفعل الإنسان المَدين حين يعطي لمن يطلبه نصف المبلغ ولا يعطيه النصف الآخر ويأكله عليه، أي أنه أكل نصف حقه، وهذا يسمى بالحيف، وحين تطبق القانون على شخص ولا تطبقه على آخر، هذا أيضا نوع من الحيف، وهو العدالة المجزّأة، فهذا ليس بعدل وإنما هو ظلم.
العدالة منظومة متكاملة
العدل والعدالة في منهج الإمام علي (عليه السلام) منظومة متكاملة، فعليك أن تنظر إلى كلها حتى تنجح في تطبيق العدالة، وهذه هي الرؤية الاستراتيجية، فاستعمل العدل، واحذر العسف والقوة (كما تفعل دولنا، تستعمل القوة العمياء والقمع الأعمى ضد الناس)، والحيف كما ذكرنا فإنها تطبق القانون وفق مزاجها، أو تطبقه على من تشاء وتترك من تشاء.
(فإن العسف يعود بالجلاء) حيث يؤدي بالنتيجة إلى فرار الناس وجلائهم، بسبب عدم الشعور بالأمان، لأن الناس تكره القوة والعنف ضدها، وهناك خشية لديهم من رجال الامن الذين يظلمون الناس، فالحيف بالنتيجة يدعو إلى الغضب المكبوت، والحنق ثم إلى الثورة، لأن العدالة المجتزأة ليست بعدالة.
فالرؤية يجب أن تكون استراتيجية لبناء الدولة، وبناء المنهج، فإذا أرادت أي نخبة أو أي مجموعة أو أي فئة أن تعمل عملا صالحا من أجل مصلحة بلادها ومجتمعاتها، عليها أن تراعي الرؤية الاستراتيجية في ذلك.
وفي باب الرؤية الاستراتيجية أيضا، يقول الإمام علي (عليه السلام): (لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي)، وهذا يسمى بالإصلاح الشامل وليس الجزئي، فبناء الدولة والمجتمع هي عملية بناء شاملة وليست مجتزأة، نعم هناك تطبيق تدريجي عبر التوعية والتثقيف وإرشاد الناس، لكن يجب أن لا يكون البناء مجزّأ فيبدأ الإنسان من نفسه، ولا يطبق ذلك على الناس وينسى نفسه، فهذا أمر ينطوي على تناقض.
مواجهة المخاطر المستقبلية
الإمام علي (عليه السلام) يواجه المخاطر المستقبلية من خلال هذه الرؤية بكل وضوح، وقادر على استبعادها من خلال المبدأ، فعندما يكون المبدأ صحيحا تكون النهاية سليمة.
الإمام علي (عليه السلام) هو منهج لكل البشرية وفي كل الأزمنة، وليس لزمان واحد، فهو منهج من أجل بناء البشرية وتكاملها ونضجها العقلي، هناك الكثير من الناس يريدون العيش المادي فقط، والعيش الجزئي، هؤلاء لا يفهمون بأن الحياة تحتاج إلى بناء ونهج استراتيجي شامل، يتناسب مع النظام الإلهي.
هذه الرؤية تحتاج إلى توعية مستمرة وإرشاد مستمر، حتى تنضج في أذهان الناس، ولا يمكن فرضها فرضا على الناس، وإنما هي عملية تربوية تعليمية، يتعلمها الناس حتى يصدقوا بالمنافع الكبرى التي يمكن أن يحصلوا عليها من خلال اتباع منهج الإمام علي (عليه السلام)، فلو ان الدول والحكومات والجماعات اتبّعوا منهج الإمام علي (عليه السلام) برؤية استراتيجية للمستقبل، لتجنبوا الكثير من المخاطر التي يقعون فيها اليوم.
حين نلاحظ المخاطر الكبيرة اليوم، في كل مكان، فإنها نتيجة لأعمال وأفعال سابقة، لم يعالجوها أو تعمدوا تركها وذهبوا وراء منافعهم الجزئية الخاصة، وهذه مشكلة موجودة عند البشر، إذ أنه يتصور بأنه لن يصل إلى هذا المخاطر التي يعيشها اليوم، لكنه يقع فيها، كما الإنسان الذي يوجد عنده مبلغ من المال (رأسمال) ولابد أن يستثمره، لكن لا يقوم باستثماره وإنما يصرف رأسماله وبعد فترة ينتهي هذا الرأسمال، ويبقى صاحبه بلا مال.
الاستثمار في المناهج الصالحة
الإنسان والمجتمع الذي لا يستثمر عمره في بناء المناهج الصالحة والمناهج الاستراتيجية المستقبلية، سوف يقع في المخاطر الكبيرة، وهذا ما قاله الإمام علي (عليه السلام) في حديثه المهم جدا، فهذه الأحاديث تكاملية، أحدها يتبع الآخر فيما يتعلق بالرؤية الاستراتيجية.
يقول الإمام علي (عليه السلام): (وَإِنَّمَا الدُّنْيَا مُنْتَهَى بَصَرِ الْأَعْمَى لَا يُبْصِرُ مِمَّا وَرَاءَهَا شَيْئاً وَالْبَصِيرُ يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ الدَّارَ وَرَاءَهَا فَالْبَصِيرُ مِنْهَا)، فالفرق بين الرؤية التكتيكية والرؤية الاستراتيجية أن الذي ينظر فقط إلى الواقع الموجود الآن فهو أعمى، فينظر إلى منافعه ومكاسبه ولذاته، وهذه هي النظرية النفعية وهي نظرية خطيرة جدا، أو النظرية التجريبية التي تعني أن كل شيء لا نجربه فهو غير واقعي.
هذا هو منتهى بصر الأعمى، أما الإنسان البصير الذي ينفذ بصره إلى المستقبل، فهو يعلم العواقب ويرتب حياته نحو النتائج الصحيحة وفق العمل الاستراتيجي، فيقول الإمام (لا يبصر مما وراءها) أي أنه لا يبصر المستقبل، وإنما يرى الأشياء الآنية، (والبصير ينفذها بصره) أي ينفذ إلى مدى بعيد، ولا يقف عند حد معين، ولا يضع جدارا يحجب عنه الرؤية، وإنما ينظر إلى ما وراء الجدار الممتد إلى المستقبل.
(ويعلم أن الدار وراءها) يعني الدار الآخرة، فالبصير من تلك الدار الآخرة، بمعنى الناجي من الدنيا، وهو الناجي في الدنيا والآخرة، لكن أغلب الناس غير ناجين، لم ينجُ لا في الدنيا ولا في الآخرة، بسبب ذلك البصر الأعمى لمصالح خاصة، فهو أعمى القلب والبصر لانه يعيش حبيسا في قوقعة الحاضر.
الانحراف وفقدان المهارات
توجد لدينا أمثلة كثيرة في حياتنا، مثلا التربية الصالحة، فهناك بعض الأشخاص يهمل أبناءه في قضايا التربية الصالحة، فينظر إلى واقع الحال اليومي فقط، يعطي لابنه الأكل والملبس ويترك الأخلاق والتربية، فهذا ليس مهما عنده، وإنما المهم بالنسبة له هو أن يشبعهُ ويُلبسه، لكن بعد عشرين سنة ماذا يحصل؟، أما يكون الابن منحرفا أو فاقدا للمهارات اللازمة للحياة، أو فاقدا للرأسمال المعرفي والأخلاقي والديني والثقافي اللازم.
فإن عدم الاستثمار للمستقبل يؤدي إلى ضياع الإنسان (الابن)، ومن لا يستثمر للمستقبل هو أعمى البصر والبصيرة، أما الذي ينظر إلى مستقبل ابنه بعد عشرين سنة، فسوف يقدم له التربية الصحيحة والسليمة، ويعطيه الرأسمال المعرفي والديني والأخلاقي، لكي يعيش في المستقبل وهو يمتلك الثروة اللازمة للحياة، وهذا المثال الذي أتينا به شخصي لكنه يشمل المجتمع كله، ويشمل العالم كله. لذلك فإن البصيرة مهمة جدا لبناء الرؤية الاستراتيجية للمستقبل.
بناء البصيرة الاستراتيجية
فمن هو البصير؟، يقول الإمام علي (عليه السلام): (فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي وَالضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي).
(البصير من سمع فتفكّر)، وقد تطرقنا للاستماع الجيد، إذ يجب أن يكون سمْع الإنسان مفتوحا حتى يصل الكلام إلى قلبه ويفهمه، ويتفكّر، وهذه هي أهم خطوة في عملية بناء البصيرة الاستراتيجية، وهذا ينشأ من الاستماع الجيد الذي يؤدي إلى التفكر الصحيح والسليم، وعندما ينظر الإنسان المتفكّر إلى الأمور، سوف يُبصر إبصارا حقيقيا بقلبه وليس بعينه فقط.
(وانتفع بالعِبَر) أي يستفيد من التجارب والأخطاء ومن تجارب وأفعال الآخرين، فيكون عنده اعتبار وفهم لعالم الأسباب والمسببات، ويجعل تجربته الذاتية وتجارب الآخرين منطلقا للتغيير، والتقدم، ومنطلقا للعمل الصالح السليم، فالرؤية الاستراتيجية تنشأ من خلال قراءة التجارب بشكل صحيح، فيعرف أن بعضهم لم ينتفع من العبر فسقطوا، فيحاول أن يتجنب ذلك المصير الذي وقع فيه الآخرون، وهناك من يقرأ التاريخ أو الأدب لكن دون أن ينتفع من هذه القراءة.
السير على حافة الهاوية
(ثم سلك جددا واضحا) الجدد هي الأرض المستوية، أو الطريق الصواب والصحيح الذي لا يوجد فيه عثرات، فالإنسان الذي يسير في طريق معبَّد ونظيف ليس لديه مشكلة، أما من يسير في طريق أعوج مليء بالحجارة والحصى فإنه سوف يعاني من المشكلات، فالإنسان الذي ينتفع من العبر ولديه تفكّر، وفهم، سوف يسلك الطريق المستوي والواضح، ولا يسلك الطريق الغامض، فهو إذاً بحاجة إلى أن يفهم، والفهم مهم جدا في التعلم والتبصر.
هذا هو معنى البصيرة، أن تسلك الطريق المستوي الواضح الذي يجنب الإنسان السقوط في المهاوي، ولا ينبغي أن يذهب إلى حافة الهاوية، ويمارس ألاعيب الوقوف على حافة الهاوية، هناك بعض الأشخاص يمارسون المغامرات المميتة، والمهلكة، ومعظمهم ينتهون إلى الموت، هؤلاء يحبون المغامرة من دون التفكير بما سيصيبه، ولا ينتفع بالعبرة، وهو يخوض هذه المغامرة المميتة لكي يثبت لنفسه والآخرين بأنه شخص شجاع!.
سياسة الغموض الاستراتيجي
الإنسان الصالح يذهب وراء أعمال صالحة، فيها وضوح وليس غموض، ولا يقع فيها بالمهاوي ولا الضلالة بالمغاوي، ولا يضل في طرق الانحراف التي تؤدي بالنتيجة إلى سقوطه ونهايته، كما تمارس الدول بعض الألاعيب الموجودة في السياسة، للأسف يستعملها بعض السياسيين من أجل اللعب، ولأن السلطة موجودة بيده فيصل إلى مرحلة التلاعب لأنه لا تقوى ولا إيمان لديه، ولا يؤمن البشر بل يحتقرهم ويتصور أنهم أقل منه شأنا، بسبب غروره وتكبره الذي يجعله يتلاعب بمقادير الناس وأحوالهم.
حيث تصل ببعض القوى العظمى إلى التهديد باستعمال الأسلحة النووية، فيلعب ويتلاعب لأنه يمتلك الأمر بقيام الحرب والذهاب إلى حافة الهاوية.
وهناك أيضا سياسة الغموض الاستراتيجي، فيجعل من استراتيجيته غامضة ولا يسمح للآخرين بفهمها، ولكن هذه الاستراتيجية لا يوجد فيها أي نفع، وإنما الغرض منها التلاعب بالألفاظ، وصناعة الأعداء والحروب من أجل شهوة السلطة، وعندما نقرأ سيرة بعض الحكام في التاريخ، أنهم شنوا الحرب ليس من أجل السيطرة على الأراضي والبشر وإنما هي شهوة الحرب أو لعبة الحرب، فهو يحب الحرب والقتال ويحب أن يقتل الناس عبر صناعة الحروب التي تغذيها شهوة الحرب.
شهوة الحرب المدمِّرة
الإنسان غير المتقي تصل به الشهوة إلى مديات هائلة وعالية، تؤدي إلى تدمير البشرية، وتدمير مجتمعه وشعبه، من خلال التسلط وإصدار الأوامر والتلاعب بالناس، ليجعل منهم مجرد دمى يتسلى بها، كما يفعل الطواغيت، وهذه ليست مشكلة الطاغية وحده، وإنما مشكلة الخانعين الذين قبلوا بأن يتلاعب بهم هذه الطاغية وبأفكارهم ومصائرهم.
لذلك فإن منهج الإمام علي (عليه السلام)، يؤكد لنا بأن الرؤية الاستراتيجية تجعلنا نسير في طريق مستوي صالح وواضح، نتجنب فيه المخاطر والكوارث، سواء كانت الكوارث المادية أو الكوارث العقائدية أو المعنوية التي تسقط فيها البشرية.
على سبيل المثال، فإن المعلوماتية أو الذكاء الاصطناعي، أو العالم الرقمي الذي لا توجد فيه أي حدود أخلاقية، وإنسانية، فماذا يصنع هذا العالم الرقمي؟، إنه يصنع الكوارث، فالطاقة المطلقة إذا لم يكن لدينا رؤية استراتيجية للمخاطر التي تنتجها، تقع كوارث كبيرة جدا كما يحصل اليوم.
هناك أجيال كاملة تضيع اليوم بسبب فقدان الرؤية الاستراتيجية والبصيرة الصالحة والسليمة، بسبب فقدان التحكم بهذه القوة الرقمية الهائلة التي تهدد أبناءنا المراهقين والشباب، هناك الكثير منهم يعيشون الآن في حالة من السقم النفسي واعتلال الصحة النفسية وحالات من الاكتئاب والقلق، بسبب شبكات التواصل الاجتماعي.
وهناك تكنولوجيا جديدة دخلت في عالم التواصل الاجتماعي الذي يسمى بـ (الميتافيرس)، وهو أكثر تقدما من مواقع التواصل السابقة، حيث يجعل الإنسان يعيش في عالم افتراضي، فيه أبعاد ثلاثية وهو عالم وهمي وزائف، إنهم يصنعون عالما جديدا كي يصبحوا أربابا، فيصنعوا أديانا جديدة وعالما مزيفا، وعندما يسيطر هذا العالم على البشرية كلها، إلى أين نصل؟، الجواب نصل إلى اللاشيء.
الرؤية الاستراتيجية للحياة السعيدة
هذا كله يحدث بسبب فقدان البصيرة وطغيان البصر الأعمى، وحين يستلذ الإنسان بهذه الأمور ويعتقد بأن فيها ربح مادي ومتعة ولذة، فهو لا ينظر إلى ما سيحدث في المستقبل، وما حدث في الحربين العالميتين الأولى والثانية اللتين أدتا إلى عشرات الملايين من القتلى والضحايا والتدمير، هو نتيجة لفقدان الرؤية الاستراتيجية، حيث الصراع على الاستعمار كان وقوفا على حافة الهاوية ومطلبا مميتا، دون التفكير في النتائج والعواقب.
لابد من تجنب (الصرعة في المهاوي والضلالة في المغاوي)، وهذه هو أهم ما نحتاجه اليوم، وهي الرؤية الاستراتيجية للإمام علي (عليه السلام)، والبصيرة الواضحة التي يمكن أن تقودنا نحو الحياة الصالحة والسعيدة والمطمئنة.
الشيخ مرتضى معاش/ شبكة النبأ المعلوماتية