المقالات

كربلاء: الأرض التي سكنت قلوب الأنبياء قبل أن تسكنها نسائم الشهادة

ليست كربلاء مجرد رقعة جغرافية، بل هي معراج للمعنى، ومسرح أبدي للدموع والمواقف والرسالات. منذ أزمنة لا يعرفها التقويم، وقبل أن تفتح البشرية أعينها على تراب الأرض، كانت كربلاء موجودة في وعي السماء، محفوظة في ذاكرة القداسة، ومصطفاة بين البقاع لتكون موطنًا للدم الطاهر ومثوى للأرواح الأسمى.
في رواية مؤثرة للإمام محمد الباقر عليه السلام، تروي الشهادة الخالدة: «ما زالت كربلاء قبل أن يخلق الله الخلق مقدسة مباركة، ولا تزال كذلك حتى يجعلها الله أفضل أرض في الجنة، يسكن فيها أولياءه». كلمات تختزل مكانة هذه الأرض، وتُخرجها من نطاق الجغرافيا المحدودة إلى فضاء العقيدة الخالدة، إذ إن خصوصية كربلاء لا تُقاس بموقع أو تضاريس، بل بحقيقتها القدسية الممتدة عبر العصور.
وليس غريبًا أن تتردد كربلاء في تأويلات أهل المعرفة وتفسير رموز الوحي، كما فعل العلامة الشيخ العاملي حين قرأ الآية {كهيعص} بوصفها خريطة رمزية لمصيبة كربلاء؛ فـ”الكاف” تمثّل كربلاء، و”الهاء” تشير إلى هلاك العترة، و”الياء” ليزيد، و”العين” للعطش، و”الصاد” لصبر آل محمد عليهم السلام. هكذا يُقرأ النص الإلهي من قلب المصيبة، وكأن كربلاء كانت حاضرة في الحروف كما في الأحداث.
ولا يمكن فصل كربلاء عن وعي النبوة، فقد تحدّث عنها النبي محمد صلى الله عليه وآله في لحظة استشراف غيبي، عندما قالت له السيدة الزهراء عليها السلام: «يا أبت، أخبرني عن مقتل ولدي الحسين»، فأجابها: «في موضع يُقال له كربلاء، وهي أرض كرب وبلاء علينا وعلى الأمة». في تلك اللحظة، كانت كربلاء تتكشّف عن وجهها المأساوي، وتُعلن عن دورها في صناعة التاريخ الرسالي.
ولأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام هو الآخر مقولة دامغة عندما أشار إلى موقع دفن الحسين عليه السلام بقوله: «يقبر ابني بأرض يُقال لها كربلاء، وهي الموضع الذي نجّى الله فيه المؤمنين مع نوح». الربط بين كربلاء وطوفان نوح ليس مجرد استدعاء رمزي، بل هو تثبيت لقدسية أزلية، وارتباط بمفاصل حاسمة في نجاة الإنسان.
وقد عرفت كربلاء في الأزمنة الغابرة بعدة تسميات، أبرزها “عمورا”، وهي التسمية التي ارتبطت بالمكان كمحطة للعبادة، كما ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: «إنها أرض قد التقى فيها النبيّون وأوصياء النبيين»، لتتحول من مزار للأنبياء إلى ميدان للشهادة، ومن بقعة سجود إلى ساحة دماء اختلط فيها العطر السماوي بتراب الأرض.
أما اسم “العقر”، الذي ورد في بعض المصادر كموضع قريب من كربلاء، فقد رفضه الإمام الحسين عليه السلام، واستعاذ بالله من نُطقه، مما يدل على حساسية الاسم وأثره في النفس المعصومة، مقابل ارتباط اسم “كربلاء” بمعانٍ روحية لا تُمحى، وخصوصية رسالية لا تُنافس.
إن كربلاء، وإن كانت قطعة من الأرض، إلا أنها في الوعي الإسلامي تمثل بوصلة الهداية، ومحراب الشهادة، ودليلاً على خط التضحيات الكبرى التي خاضها أهل البيت عليهم السلام من أجل بقاء الدين وعدالة الرسالة. وكلما ذُكرت، تُستحضر معها قصة النور في مواجهة الظلام، والحق حين يُروى بالدم، والوفاء حين يُكتَب على رمال الابتلاء.
كربلاء لم تكن يومًا مكانًا فقط، بل كانت وما زالت نداءً في الضمير الإنساني، يوقظ العدل في وجه الظلم، ويذكّر القلوب بأن هناك أرضًا من نور، لا تزال تنبض بنداء “هل من ناصر؟”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى