العمل في فكر الأنبياء.. حين تصنع الرسالة الإنسان قبل الحضارة

منذ أن وطئت قدما الإنسان أديم هذه الأرض، وهو في صراع دائم مع حاجاته وسعيه، مع روحه وجسده، مع قيمه وغرائزه. وقد شاء الله أن لا يتركه في هذا التيه دون بوصلة، فأنزل الأنبياء، لا ليحدثوا فقط انقلاباً في العقائد، بل ليعيدوا صياغة الإنسان من أعماقه، ويصنعوا منه جوهرة الخلافة الربانية في الأرض. وكان العمل في فكر الأنبياء هو النواة الأولى لهذا التكوين، بوصفه عبادة لا تقل شأناً عن الصلاة، بل هي وجه آخر لها حين تنغرس في الواقع وتثمر.
لم يكن نبيٌّ من أنبياء الله إلا وكان عاملاً، لا لأن الحرفة ضرورة معيشية فقط، بل لأنها جزء من التربية النبوية، إذ لا يكتمل الإيمان دون أن يلامس تراب الكدح، ولا تنضج الروح ما لم تمرّ من جراح السعي. فها هو نوح “عليه السلام” يصنع سفينته وسط سخرية القوم، وتحت عين الله ووحيه، في مشهد تتجلى فيه وحدة الطاعة والعمل. وها هو داود “عليه السلام”، الملك النبي، يلين له الحديد ليصنع به دروعاً، ويأكل من كدّ يده، كأعلى صورة للاستغناء بالله لا بالناس. أما سليمان “عليه السلام”، فقد جمّع الصناعات والجنّ والطير تحت راية عدله، ليقول للعالم إن الإعمار لا ينفصل عن الإيمان، وإن عظمة الدولة من عظمة منظومتها الإنتاجية.
ويمضي سيد الخلق محمد “صلى الله عليه وآله”، حاملاً مشعل التكميل، لا ليؤسس ديناً نظرياً، بل ليبني مجتمعاً لا تنفصل فيه السماء عن الأرض. يرعى الغنم في شبابه، ويتاجر بصدق في رجولته، ويحفر الخندق بيديه في شيخوخته، ثم يقول لأمته: “لو قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فليغرسها”. ما أروع هذا التصوير! نبي يزرع في لحظة الفناء، لأن العمل عنده ليس ردة فعل بل فريضة، ليس رفاهية بل عقيدة.
وهنا تتجلى عبقرية الإسلام، حين نقل العمل من خانة الضرورة إلى فضاء القداسة. لم يُختزل في لقمة العيش فقط، بل أُدرج في منظومة الأخلاق والتكليف والنية، حتى صار “اليد العليا خير من اليد السفلى”، وصار “الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله”.
في المقابل، جاءت الأيديولوجيات الغربية، بعد قرون من استعباد العمال، لتحاول إعادة الاعتبار للكرامة المهنية، بعد أن سحقها الإقطاع والتوحش الصناعي. نادت بالحرية والعدالة والضمانات، وشكّلت النقابات وشرّعت القوانين، لكنها بقيت دون روح. بقيت تبحث عن الإنسان داخل العجلة، بينما الإسلام صنع العجلة من أجل الإنسان.
وما أن بزغ فجر الحضارة الإسلامية، حتى امتلأت الأرض بورش الحرفيين، وسواعد الصناع، وأفكار المبتكرين. فها هي بغداد والفسطاط وقرطبة وسمرقند، تصدّر للعالم الورق والزجاج والبارود والجلود والتطريز. لم تكن الحضارة زخرفاً معمارياً فقط، بل كانت منظومة عمل موصولة بالسماء، ومدفوعة بروح الإخلاص، ومبنية على قاعدة ذهبية: “من أمسى كالاًّ من عمل يده أمسى مغفوراً له”.
ولم يكن هذا أمراً عابراً، بل تجذّر حتى في أدق تفاصيل الفقه والعقيدة، فالعمل في الفقه الإسلامي ليس مجرد حرفة، بل فريضة إذا احتاجها المجتمع، وهو من تمام التوكل لا نقيضه. ويكفي أن أمير المؤمنين علياً “عليه السلام”، وهو قمة الزهد والعبادة، كان يضرب الأرض ويشقّ الآبار، ويقول: “العمل عبادة”، لأنه أراد أن يبني مجتمعاً لا يستجدي، بل ينتج؛ لا يعلّق مصيره بالسماء وينام، بل يقرأ السماء من خلال ما تبذله يداه في الأرض.
لقد صنع الأنبياء، وعلى رأسهم محمد “صلى الله عليه وآله”، الإنسان قبل أن يصنعوا الحضارة. وكان العمل هو أداة التشكيل، والعرق هو الحبر الذي كُتبت به أعظم فصول النهضة.
واليوم، في عالم تتسابق فيه الأمم على تقنين العمل وتجميل سوق العمالة، نحتاج أن نعود إلى مدرسة الأنبياء، نقرأ فيها كيف يتحول العمل من وظيفة إلى رسالة، ومن رزق إلى موقف، ومن حرفية إلى هوية. نحتاج أن نُحيي تلك الروح التي جعلت من العامل أخاً للنبي، ومن الحرفة سلّماً للكرامة، ومن الجهد طريقاً إلى الجنة.
فما دام في الأرض من يحمل معول الأنبياء، ويؤمن أن “السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة”، فثمّة أمل أن تقوم حضارة من جديد، لا على الأسمنت والحديد، بل على كرامة الإنسان.. حيث يكون العمل صلاته في الدنيا، وزاده إلى الآخرة.