الإمام الرضا (عليه السلام).. قمة الكمال الإنساني

إنّ حياة الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) تمثل نموذجاً مشرقاً للإنسان الكامل، الذي جسّد في سيرته كل معاني العطاء، وسما إلى ذرى الكمال الخلقي والعقلي والروحي. فقد كان الإمام الثامن من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مدرسة متكاملة من مكارم الأخلاق، ومصدر إشعاع علمي وروحي لا ينضب، فأنار بعلومه دروب الحائرين، وبسيرته أخجل المتكبرين، وبلين جانبه احتضن الضعفاء والمحرومين، وبصبره على المحن لقّن الإنسانية درساً في العزة والثبات.
من تتبع حياة الإمام الرضا (عليه السلام) يجد أمامه شخصية متكاملة لم تفصل بين النظرية والتطبيق، بل عاش المبادئ الإسلامية بكل تفاصيلها، حتى أصبح في سلوكه وآدابه قدوة لا نظير لها. ومن الطبيعي أن يكون الإمام المنصوص عليه من قبل الله تعالى متميزاً عن سائر الناس، فهو أعلمهم وأتقاهم وأزهدهم، وأكرمهم في أخلاقه وأرفعهم قدراً في سموّ النفس والمقاصد.
يروي إبراهيم بن العباس الصولي، أحد معاصري الإمام، شهادة بالغة في التعبير عن خلقه الرفيع، فيقول: “ما رأيت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) جفا أحداً بكلامه قط، وما رأيته قطع على أحد كلامه حتى يفرغ منه، ولا ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدّ رجليه بين جليس له قط، ولا اتّكأ بين يدي أحد، ولا شتم مواليه قط، ولا رأيته تفل، ولا قهقه في ضحكه بل كان تبسماً، وكان يجلس إلى مائدته معه مماليكه، حتى البواب والسائس، وكان كثير الصدقة في السر، ولا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر…”.
إنّ هذه الرواية تقدم لنا لوحة متكاملة عن شخصية الإمام في تعامله اليومي، وهي ليست سلوكيات عفوية بل تجلٍّ لوعي عميق بالرسالة التي يحملها، فالإمام (عليه السلام) لم يكن يعيش لنفسه، بل كان يجسد في حركته دعوة الإسلام وسماحة الدين الذي جاء به جده محمد (صلى الله عليه وآله).
في زمن كان التمايز الطبقي والعنصري ضارباً في المجتمع، أصر الإمام الرضا (عليه السلام) على كسر هذه الحواجز، فكان لا يفرق بينه وبين الخدم في الجلوس أو الطعام أو الكرامة. روى أحدهم أنّ الإمام جمع على مائدته الخدم والسودان، فقيل له: لو جعلت لهم مائدة أخرى؟ فغضب وقال:
“إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال.”
وفي موضع آخر، قال (عليه السلام): “إن كان يرى أنه خير من هذا ــ وأشار إلى عبد أسود ــ لقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، إلا أن يكون له عمل صالح، فأكون أفضل به منه.”
بهذه العبارات الصادقة، كان الإمام يزرع في قلوب الناس مبدأ المساواة، ويهدم بقايا الجاهلية المتغلغلة في النفوس.
لم يكن الإمام الرضا (عليه السلام) مصلحاً اجتماعياً فحسب، بل كان صوت الوحي في الأمة، والمجسِّد لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله) في بُعدها العملي. وقد شهد أعداؤه وأصحابه على حد سواء بفضله وتقواه، حتى قال عنه رجاء بن أبي الضحاك ـ مبعوث المأمون ـ بعد سفر طويل معه:
“والله ما رأيت رجلاً أتقى لله منه، ولا أكثر ذكراً له، ولا أشد خوفاً منه، وكان يقصده الناس في كل بلدة فيستفتونه، ويجيبهم عن معالم دينهم ويحدثهم عن آبائه.”
وحينما بلّغ المأمون هذه الشهادة، قال: “بلى، يا ابن أبي الضحاك، هذا خير أهل الأرض وأعلمهم وأعبدهم.”
إن الإمام الرضا (عليه السلام) لم يكن زاهداً في الدنيا فحسب، بل كان زاهداً في الزهد ذاته، يعطي ولا ينتظر، ويرشد من لا يطلب، ويعفو عمّن أساء، ويرتقي فوق ضجيج الحقد والبغضاء. فكان في كل ذلك صورة حيّة من صور النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، يمشي بين الناس في حُلّة من التواضع والعلم والموعظة الحسنة.
لقد اجتمعت في الإمام الرضا (عليه السلام) صفات العالم الرباني، والمصلح الاجتماعي، والعبد الزاهد، والإنسان الكامل، فاستحق بحق أن يكون قمة الكمال الإنساني.
فطوبى لمن اقتدى به، وسار على نهجه، واهتدى بنور هداه.