
أعلنت بعثة بحثية عراقية-بريطانية مشتركة عن اكتشاف منظومة ري ضخمة في جنوب العراق تعود إلى ما لا يقل عن 600 سنة قبل الميلاد، في إنجاز أثري يلقي الضوء على القدرات الزراعية المتقدمة لحضارات وادي الرافدين القديمة.
وتقع المنظومة المكتشفة في منطقة أريدو جنوب محافظة ذي قار، قرب البصرة، وهي إحدى أقدم المناطق الزراعية في العالم. وبحسب الدراسة، فإن المنظومة تتألف من أكثر من 200 جدول رئيسي يمتد كل منها إلى المجرى القديم لنهر الفرات، ويتفرع عنها ما يزيد على 4000 جدول فرعي، كانت تسقي نحو 700 حقل زراعي، مما يشير إلى وجود مجتمع زراعي متطور وقادر على إدارة المياه بكفاءة عالية.
وجاء هذا الاكتشاف نتيجة تعاون بين جامعتي دورهام ونيوكاسل البريطانيتين وجامعة القادسية العراقية، وبدعم من المعهد البريطاني للدراسات في العراق. وقد استخدم الباحثون تقنيات حديثة تشمل الصور الجوية الملتقطة بواسطة الطائرات المسيّرة، إلى جانب المسوحات الجيولوجية والعمل الميداني.
وأوضحت الدراسة أن مزارعي تلك الحقبة شيدوا مصدات عالية داخل مجرى الفرات، لتوجيه المياه إلى أحواض ضخمة تتفرع منها الجداول وتصل إلى الأراضي الزراعية، ما أتاح لهم زراعة الحبوب بشكل واسع على ضفتي النهر، رغم أن معظم النشاط الزراعي كان يتركّز في جانبه الشمالي.
ويُعدّ هذا الاكتشاف دليلاً إضافيًا على براعة سكان وادي الرافدين في استخدام الجغرافيا والموارد الطبيعية لتطوير شبكات ري معقدة، سبقت عصرها بقرون. كما تكشف الدراسة أن المنطقة بقيت مدفونة تحت الرمال لآلاف السنين دون أن تتأثر بالتغيرات البيئية أو البشرية، وذلك بعد أن غيّر نهر الفرات مجراه في الألفية الأولى قبل الميلاد، مما أدى إلى هجرة السكان منها.
وتُبرز النتائج كيف تطورت شبكات الري تدريجيًا على مرّ القرون، ما يعكس تنظيمًا اجتماعيًا عالي المستوى وخبرة فنية متراكمة، تتطلب صيانة دقيقة وإدارة معقدة لتوزيع المياه.
ويؤكد الخبراء أن هذا الاكتشاف لا يثري فقط فهمنا لتاريخ الزراعة في العراق القديم، بل يقدّم نموذجًا مبكرًا لاستدامة إدارة الموارد المائية، في منطقة كانت ولا تزال قلب الحضارة الزراعية في الشرق الأدنى.