شتاء أفغانستان القارس.. حين يختبئ الخبز خلف أسوار المساعدات الأمريكية
في وسط شتاء لا يرحم، وفي زوايا المدن التي تئن تحت وطأة الجوع، تتراكم المخاوف، ويتعالى صوت التحذيرات، كأنها صدى بعيد يردد وجع الملايين.
قرار تجميد المساعدات الأمريكية لم يكن مجرد توقّف للمنظمات الإغاثية في أفغانستان ، بل كان سيفًا حادًا أُشهر في وجهها، حيث يمتدّ الجوع كظل ثقيل يطارد العائلات، ويعصف بالضعفاء الذين باتوا يحلمون برغيف خبز يطلّ عليهم. فالجوع لا يعرف الأيديولوجيات السياسية، والمعدة الفارغة لا تسأل عن الانتماءات.
منظمات إغاثية تغلق أبوابها
أعلنت وزارة الاقتصاد في حكومة طالـ،ـبان توقف 50 منظمة إغاثية عن العمل بعد تعليق التمويل الأمريكي، وفق ما نقلته قناة “طلوع نيوز” الأفغانية. وكانت هذه المنظمات توفر مساعدات لملايين المواطنين، وكأنها بقايا ضوء في عتمة الحاجة، تقدم الدواء لمن أرهقه المرض، وتسند الجوعى بما تيسر، فإذا بها تُغلَق كما تُغلَق النوافذ في وجه رياح عاتية.
ودعا عبد اللطيف نظري، نائب وزير الاقتصاد في حكومة طالـ،ـبان، المجتمع الدولي، ولا سيما الولايات المتحدة، إلى فصل المساعدات الإنسانية عن الخلافات السياسية، مطالبًا المجتمع الدولي بأن يترفع عن الحسابات والمصالح.
وفي سياق متصل، أفادت صحيفة “هشت صبح” الأفغانية بأن منظمة البحث والتطوير المجتمعي (ORCD) أوقفت عملياتها في ولاية بكتيا، حيث كانت تقدم خدمات طبية للأمهات والأطفال بدعم من صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA). فتضاءلت الفرص أمام من كان يبحث عن يدٍ تزيح عنه القليل من وطأة الحياة.
برنامج الغذاء العالمي يحذّر
حذّر برنامج الغذاء العالمي من أن أكثر من 15 مليون أفغاني بحاجة ماسة للمساعدات الغذائية، فيما لن يتمكن نصفهم من الحصول عليها خلال الشتاء بسبب نقص التمويل، وفقًا لوكالة رويترز.
وأكدت شياو-وي لي، مديرة البرنامج في أفغانستان، أن الوضع الغذائي في البلاد يزداد خطورة، مشددة على ضرورة استمرار تدفق المساعدات لتجنب أزمة أعمق.
ووصفت ” لي” المشهد كأنه مقطع من زمن الكوارث الكبرى، حيث يزداد الجوع وحشيّة، بينما تتقلّص الفرص أمام من اعتادوا أن يحسبوا الأيام بوجبة واحدة. فتقول “نحن بالكاد نستطيع إطعام نصف من يحتاجون إلينا وإن استمر الحال، فإن العواقب ستكون كارثية ” .
الخبز والشاي.. وجبة البؤساء
في البيوت التي كانت يومًا تضج بالحياة، لم يتبقَّ سوى الخبز اليابس والشاي الباهت. وفقًا لـSalam Watandar، تعيش العائلات الأفغانية في سباق مع الجوع، بينما يقف أحمد، العامل اليومي، عند أبواب المدينة، يبحث عن عمل لا يأتي. “لم يعد لدينا إلا القروض.. نقترض لنأكل، نقترض لنعيش”.
وفي هرات، حيث الأمل يذوي مع كل شمس تغيب، أرسلت ليلى ابنها إلى إيران، علّه يعود ببعض المال الذي يكفي لسدّ رمق إخوته الصغار. لكن الريال الإيراني، الذي بالكاد يقوى على مجابهة الزمن، لم يكن حبل نجاة كما ظنت، بل أضاف همًا جديدًا إلى همومها. “المال قليل، الطعام أغلى، وهناك أيام ننظر فيها إلى الطاولة، فلا نجد عليها إلا الفراغ”، تقول بصوت يشبه شهقة الغريق.
الشتاء يضاعف المأساة
الشتاء في أفغانستان ليس كأي شتاء، فهو يزور البيوت بلا استئذان، ويقرع الأبواب برياحه الباردة، ليجد الملايين بلا وقود، بلا غطاء، بلا طعام. في ولاية باروان، اضطر محمود إلى بيع آخر ما يملك: سجاده، أدوات مطبخه، كل شيء مقابل قليل من القمح. “كيف نعيش؟ لا أدري”، يقول وقد انطفأت في عينيه أي إجابة محتملة.
وفي زاوية أخرى، تشير تقارير RFERL إلى أن نسبة الأطفال المصابين بسوء التغذية ارتفعت 90% عن العام الماضي، فيما ازدادت حالات الالتهاب الرئوي بنسبة 55%، وكأن الجسد الهزيل لم يكفه الجوع، فأتى المرض ليكمل دائرة العذاب.
طفولة تحت تهديد الجوع
تقرير “أنقذوا الأطفال” يصف المشهد بأشدّ العبارات قسوة، أكثر من سبعة ملايين طفل في أفغانستان يواجهون خطر الجوع، فيما تتضاعف أسعار المواد الغذائية، ليصبح الحلم بوجبة متكاملة أشبه بمطلب مستحيل.
في ظل هذا الواقع القاسي، لم يعد الموت مخيفًا كما كان، فقد أصبح الجوع وحشًا أكثر رعبًا، ينهش الأرواح قبل الأجساد، ويترك العيون تنظر إلى السماء، كأنها تبحث فيها عن طيف معجزة تأخرت عن المجيء.