تقليد ديني وتاريخي مستمر.. إسدال كسوة الكعبة قبل شروق شمس يوم عرفة:
في كل عام، يشهد التاسع من شهر ذي الحجة، وقبل شروق شمس يوم عرفة، حدثًا يترقبه المسلمون حول العالم، حيث يتم إسدال كسوة الكعبة المشرفة الجديدة على البيت العتيق. هذا التقليد العريق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بركن الحج الأكبر، إذ يتوافد الحجاج إلى صعيد عرفات لأداء مناسك الحج، مكللين برؤية الكعبة بكسوتها الجديدة، التي تجذب الأنظار بما تحمله من جمالية وفخامة.
تاريخ كسوة الكعبة
يرجع تاريخ إكساء الكعبة إلى عصور ما قبل الإسلام، حيث كانت تُكسى بقطع من الأقمشة الغليظة والجلود. ومع بزوغ فجر الإسلام، استمر التقليد ولكن بمزيد من الفخامة والاحتفاء، ليصبح شرفًا يتنافس عليه الخلفاء والسلاطين.
في العهد العثماني، وتحديدًا بأمر من السلطان سليم الأول، بدأت مصر بإرسال كسوة الكعبة إلى مكة المكرمة، واستمر ذلك حتى السبعينيات من القرن الماضي. وكان يتم تجهيز الكسوة بمواكب احتفالية تُعرف بـ”المحمل”، التي كانت تحمل الكسوة عبر الصحراء إلى الأراضي المقدسة.
مصنع كسوة الكعبة في مكة
بعد توقف مصر عن إرسال الكسوة، أسست المملكة العربية السعودية مصنعًا خاصًا في مكة المكرمة لحياكة كسوة الكعبة. يقوم المصنع، الذي يُعرف بـ”مجمع الملك عبد العزيز لصناعة كسوة الكعبة المشرفة”، بإنتاج الكسوة تحت إشراف نخبة من الحرفيين المهرة.
تمر عملية حياكة الكسوة بعدة مراحل معقدة تبدأ بالتطريز اليدوي والزخرفة، وصولًا إلى تجميع الثوب النهائي. تُصنع الكسوة من الحرير الأسود الفاخر، وتُبطن بالقطن الأبيض، وتُطرز بآيات قرآنية مكتوبة بخيوط من الذهب والفضة، مما يضفي عليها رونقًا وجلالًا.
المواد الخام وتفاصيل التصنيع
يتم استيراد المواد الخام المستخدمة في صناعة الكسوة من مختلف أنحاء العالم. يُستورد الحرير من إيطاليا، بينما تأتي الفضة والخيوط المطلية بالذهب من ألمانيا. وعند استبدال الكسوة القديمة بالجديدة، يتم تقطيع الثوب القديم وتوزيعه على الشخصيات البارزة والمنظمات الدينية، حيث تُعتبر هذه الأجزاء قطعًا أثرية نفيسة يحتفظ بها.
استمرارية التقليد: عائلة القصبجي
رغم التغيرات التي طرأت على تصنيع الكسوة، لا تزال بعض العائلات المصرية تحتفظ بتراث صناعة كسوة الكعبة. من بين هؤلاء، عائلة القصبجي، التي يمتد تاريخها في هذا المجال لأكثر من قرن. تعلم أحمد شوقي عثمان القصبجي حرفة تطريز الكسوة عن أبيه وجده، الذين كانوا يتولون مهمة إعداد المحمل ونقل الكسوة من مصر إلى مكة.
اليوم، وعلى الرغم من أن كسوة الكعبة لم تعد تُصنع في مصر، تستمر عائلة القصبجي في حياكة نسخ من الكسوة باستخدام سلك نحاس بدلًا من خيوط الذهب، لتباع كتذكارات مميزة للاحتفال بموسم الحج.
إسدال كسوة الكعبة يمثل رمزًا دينيًا وتاريخيًا عميقًا، يعكس روح الوحدة والإيمان التي تجمع المسلمين في كل أنحاء العالم. مع كل تبديل للكسوة، تتجدد رمزية الكعبة كمركز مقدس يجتمع حوله المسلمون من كل فج عميق، مما يعزز من قوة الروابط الروحية والتاريخية التي تربط الأمة الإسلامية.