الصحة المجتمعية في زيارة الأربعين.. تجربة إنسانية وصحية فريدة في مواجهة التحديات

الصحة المجتمعية في زيارة الأربعين.. تجربة إنسانية وصحية فريدة في مواجهة التحديات
تُعدّ زيارة الأربعين واحدة من أكبر التجمعات البشرية السنوية في العالم، إذ يشارك فيها ما يزيد على 20 مليون زائر من مختلف الجنسيات، في حدث عابر للطوائف والحدود، يتجه فيه الزائرون سيراً على الأقدام لمسافات طويلة قد تبدأ من أقصى جنوب العراق أو حتى من دول الجوار. وسط هذا المشهد الإنساني الفريد، تبرز ظاهرة الصحة المجتمعية كإحدى السمات الأكثر تميّزاً في هذه المسيرة الجماهيرية، حيث تنشط جهود متكاملة للحفاظ على صحة المشاركين وتعزيز سلامتهم النفسية والجسدية.
رغم الكثافة السكانية الهائلة في مسارات الزائرين، لم تُسجَّل خلال السنوات الماضية أي حالات وباء أو تفشٍ خطير للأمراض المعدية، وهو ما يعكس فعالية المنظومة الشعبية والجهود الوقائية التي تُبذل على الأرض. يتكفل الأهالي والمواكب الخدمية بتوفير مياه شرب نقية، وطعام آمن، وخدمات صرف صحي مؤقتة، إلى جانب نشر التوعية الصحية من خلال الملصقات والمنشورات، مما خلق شبكة مجتمعية فعالة أشبه بمنظومة صحية متنقلة. كما باتت هذه المواكب تمارس دوراً أقرب إلى “عيادات طبية صغيرة” تقدم كمامات، ومعقمات، وأدوية أولية بشكل تطوعي.
ومن جانب آخر، تشكّل الزيارة فرصة لمعالجة التحديات النفسية والاجتماعية، إذ يجد كثير من الزائرين فيها متنفساً للبوح والشفاء، خاصة أولئك الذين فقدوا أحبتهم في النزاعات أو يعانون من العزلة النفسية. إن شعائر الحسين عليه السلام تمنح شعوراً بالانتماء والهوية، وتبني جسور الدعم المعنوي، ما ينعكس إيجاباً على المناعة النفسية والسلوكية للمشاركين، ويجعل من هذه التجربة نموذجاً فريداً في التماسك المجتمعي والروحي.
تقدَّم أكثر من 70% من الخدمات الصحية في مسارات الزيارة عبر مبادرات أهلية تطوعية، يقودها أطباء وصيادلة وطلبة طب وكوادر تمريض ومواطنون من مختلف طبقات المجتمع، دون إشراف حكومي مباشر، مما يجعل من زيارة الأربعين مثالاً عملياً للرعاية الصحية المجتمعية المستندة إلى الدافع الديني والأخلاقي. هذه الشبكة التطوعية تعكس نوعاً من التنظيم الشعبي الذي نادراً ما يُرى في أي فعالية جماهيرية بهذا الحجم عالمياً.
ورغم هذا النجاح المجتمعي، تواجه الزيارة تحديات صحية جسيمة بسبب الزحام الشديد والسير الطويل تحت درجات حرارة مرتفعة، ما يزيد من احتمالات الإصابة بالأمراض التنفسية، والجفاف، والإجهاد الحراري، إضافة إلى مخاطر التلوث الغذائي والمائي، والحوادث المتفرقة.
في هذا السياق، تشدد المرجعية الدينية على أن التزام الزائرين بالإجراءات الصحية هو واجب شرعي، يُصنَّف تحت عنوان “حفظ النفس وحفظ الآخرين”. كما يُستحضر قول الإمام الحسين عليه السلام: “كونوا أحراراً في دنياكم”، حيث إن الحرية لا تكتمل من دون سلامة الجسد والعقل.
بهذا تتجلى زيارة الأربعين، ليس فقط كحدث ديني، بل كمختبر حيّ للصحة المجتمعية، يمزج بين الإيمان والعمل التطوعي، ويؤكد أن التلاحم الإنساني قادر على تجاوز أعقد التحديات الصحية، إذا ما قادته روح المسؤولية والتكافل.